يمكننا شرح الأمر بطريقة أخرى. الميكانيزم الذي يحكم روايات «النقطة العمياء» هو تقريباً ذاته: في كل هذه الروايات، من دون استثناء، في البداية أو في الوسط، يوجد سؤال ما، ويكون هدف الجميع العثور على الإجابة لهذا السؤال المركزي. ولكن حين تنتهي رحلة البحث، تكون الإجابة أنه ليس ثمة إجابة، ما يعني أن الجواب هو نفسه البحث عن الجواب. السؤال نفسه، الكتاب نفسه. بطريقة أخرى: في النهاية ما من إجابة واضحة، أكيدة، جليّة؛ فقط إجابة ملتبسة، غير محسومة، متناقضة، مثيرة للسخرية بشكل أساسي، لا تشبه الإجابة أساساً وهي تخص القارئ وحده. تماماً كما يفعل الدماغ حين يغطي تلك المنطقة المظلمة التي لا تبصرها العين، يقوم القارئ بتغطية تلك النقطة العمياء في الرواية وينجح في معرفة ما لم يكن يعرفه مسبقاً، أن يصل وحده، إلى حيث لا تستطيع الرواية أن تصل.
الإجابات التي توفرها روايات «النقطة العمياء»، هي الوحيدة بالنسبة لي التي تنتمي إلى النوع الأدبي، أو على الأقل التي تقدمها الرواية الجيدة. ليست الرواية بالنوع التقريري بل الاستفهامي: أن نكتب رواية يعني أن نطرح سؤالاً معقداً وأن نصيغه بأكثر الطرق تعقيداً، وليس من أجل أن نجيب عليه أو أن نعثر له على إجابة سهلة وبسيطة. أن نكتب رواية يعني أن نغوص في لغز لجعله عصياً على الحل، وليس لافتضاضه. هذا اللغز، هو النقطة العمياء، وهو أفضل ما تقوله هذه الروايات، عبر الإخفاء الوظيفي للمعنى، هذه العتمة الباهرة، هذا الغموض الملغز. هذه النقطة العمياء هي ما نحن عليه.
لنضرب مثلاً، الرواية الحديثة الأولى التي ربما هي الأفضل، لأنها تحتمل في طياتها كل البذور اللاحقة للفن الروائي، والتي بطابعها التأسيسي ستحدد بشكل كبير مستقبل هذا الفن. السؤال الأساسي الذي يطرحه سيرفانتس في «دون كيشوت» شفاف للغاية: هل دون كيشوت مجنون حقاً؟ في البداية على الأقل، الإجابة على السؤال ليست أقل شفافية: دون كيشوت هو بلا شك مجنون. ما هو أكيد أيضاً أن الدون سليم العقل تماماً، كما سيقرره كل الذين سمعوه يحاجج في موضوعات شتى، من العدالة إلى السياسة مروراً بالأخلاق، شرط ألا يدور الحديث حول قصص الفروسية. أين نحن إذن، هل دون كيشوت مجنون أم لا؟ لن نستطيع أن نحسم أو سيمكننا القول إنه مجنون وسليم العقل في آن: هذا التناقض، هذه السخرية، هذا الغموض الأساسي هو ما يشكل النقطة العمياء في رائعة سيرفانتس. عبرها، سيقول الكاتب شيئاً بغاية الأهمية، شيء لا يتعلق فقط بأن الحقيقة يمكن النظر إليها من أكثر من زاوية؛ كلا، لم يكن صاحب «دون كيشوت» مولعاً بنسبية الحقيقة أو بأبعادها، بل إن الأمر يتعلق بالسخرية. ما أراد سيرفانتس قوله عبر النقطة العمياء في روايته أن الحقيقة الإنسانية هي أساساً متناقضة وغامضة وباعثة على السخرية: أن دون كيشوت هو شخصية موزونة ومجنونة معاً، وأنه شخصية كوميدية وهزلية لكنه أيضاً شخصية مثيرة للإعجاب وبطل تراجيدي؛ أن كل الشخصيات الأخرى والرواية ذاتها تتقاسم هذه الثنائية من المتناقضات: كما يشير سيرفانتس في مقدمة الكتاب إلى أنه قدح لقصص الفروسية، سيتحول الكتاب إلى مديح للقصص ذاتها، بل لعله أفضل ما كُتِب فيها. هنا بالضبط سيتجلى الطابع التأسيسي لدون كيشوت، تجليه الأكثر عمقاً والأكثر تجديداً، عبقريته المطلقة في خلق عالم ساخر بشكل جذري: عالم ليس فيه حقيقة متجانسة ومعصومة، بل مجموعة من الحقائق المزدوجة، الملتبسة، المتشعبة والمتناقضة. هذا هو ما يحدد عالم الرواية كنوع، على الأقل تلك التي تنهل من إرث سيرفانتس، إنه تقليد يستقبل بأذرع مفتوحة العالم الساخر للعبقري الإسباني، الوصفة المضادة للدوغمائية، التشكك والتسامح الذي يبثه عبر روايته، ولهذا تتساوى الرواية في أهميتها مع ما أضافه التقدم العلمي لعالمنا الحديث. لقد استفاد هذا التقليد الروائي من الأداة المثلى لوضع السخرية في قلب الرواية، من النقطة العمياء.
لو ضربنا مثلاً آخر، رواية «موبي ديك» لهرمان ملفيل، فإن السؤال المركزي سيبدو واضحاً في البداية: من هو «موبي ديك»؟ ولماذا يبدو آشاب مهووساً بالحوت الأبيض؟ هل يمثل الحوت الأبيض الشر المطلق الذي يتقمص الحياة والفكر كما يقول ملفيل نفسه، الذي سيقول في مكان آخر إن اللون الأبيض يمثل الرمز الأكثر وضوحاً للأشياء الروحانية، أو حتى لون غطاء الإلوهية في المسيحية؟ هل يشبه الصراع بين آشاب وموبي ديك تلك المعركة التي خاضها يعقوب مع الملاك في العهد القديم (يضمن ملفيل روايته مقطع يعقوب والملاك عمداً). موبي ديك هو الشر لكنه الخير أيضاً، هو الرب والشيطان في الوقت ذاته، كل شيء في «موبي ديك»، سيتبع نفس الخيط الرابط للتناقض المستمر والالتباس المتكرر كما في «دون كيشوت» تماماً. هذا ما يحصل دائماً في روايات «النقطة العمياء». نحن نعرف أن أي كِتاب لا يقوم بذاته، لكن يحصل الأمر حين يقوم أحدهم بقراءته. إن كتاباً بلا قراء هو مجموعة من الأحرف الميتة. الكتاب في المحصلة ليس سوى تقاسيم يفسرها كلّ على ليلاه: كلما كانت هذه التقاسيم باهرة، كلما سمحت بتأويلات متعددة ومضيئة. لذلك هناك في العالم نسخ من «دون كيشوت» بعدد قراء الرواية. بالمحصلة، القارئ وليس الكاتب فقط، هو من يخلق المؤلَّف. كل هذا صحيح، لكن هذه ليست كل الحقيقة. إنه لمن الصواب القول، من أجل أن يتموضع داخل النص ويمتلك القدرة على خلق النص يداً بيد مع المؤلف، فإن القارئ بحاجة لأن يترك له المؤلِّف نوعاً من المساحة: هذه المساحة هي الالتباس.
هل دون كيشوت مجنون أم لا؟ لن نستطيع القول إنه مجنون وسليم العقل في آن
ومن أجل أن يتوغل القارئ في هذه المساحة ويفرد فيها الدقة والعبقرية والدهاء، أي المواصفات التي يطلبها بول فاليري من القارئ الذكي، لا بد للكاتب من أن يترك لهذا القارئ ثغرة مضيئة نحو عالمه الداخلي المغلق بإحكام، هذه الثغرة، هي النقطة العمياء. على النقيض، هناك قراء كسالى، محدودو الأفق وغير مؤهلين بفضائل القارئ (على رأي فاليري) لن يعثروا على النقطة العمياء هذه، أو يرونها فلا يعثرون عليها، فيقومون من أجل راحة البال، بإزاحة كل الغموض والسخرية والتعقيدات والمتناقضات التي يقترحها الكاتب: قراء سيقررون مثلاً أن دون كيشوت كان مجنوناً فقط، وأن موبي ديك يمثل الشر، وأن جوزف ك. في رواية «المحاكمة» لكافكا كان بريئاً تماماً. يمكنهم فعل ذلك، بالتأكيد، ولو قبلوا بذلك تبسيط الكتاب وإفقاره، وتلف المغامرة الفكرية والقيمية التي يقترحها الكاتب. لطالما فكرت أن الكاتب الجيد هو بعكس السياسي الجيد: السياسي الجيد هو من يواجه مشكلة معقدة، فيقوم باختزالها إلى خطوطها الأساسية لحلّها بأسرع طريقة. في المقابل، الكاتب الجيد هو من يواجه مشكلة معقدة، وبدلاً من حلها يجعلها أكثر تعقيداً (والكاتب العبقري هو من يخلق معضلة لم تكن موجودة من قَبلِه). لهذا يكون السياسيون الجيدون كتّاباً سيئين والعكس كذلك. بالمحصلة كما قال فولكنر، تضيء الأعمال العظيمة عود ثقاب في العتمة التي تحيط بنا. قد يظن البعض أن عمل عود الثقاب تافه للغاية، الخطأ في ذلك أن هذا العود الصغير كفيل بأن يرينا العتمة. ترمي النقطة العمياء القارئ الشجاع في قلب هذه العتمة بطريقة بودليرية، في قلب المجهول، من أجل أن يجد كل ما هو خلاق، من أجل أن يجد المعنى لما يظهر أنه محروم من المعنى ذاته: «إن عملاً ما يكون خالداً، يقول رولان بارت، ليس حين يولّد معنى واحداً لأناس مختلفين، بل حين يولّد معاني مختلفة لشخص واحد».
* المرجع: خافيير سيركاس، «النقطة العمياء» ــ منشورات «آكت سود»، ٢٠١٦.