«إنها رواية من زمننا تغوص في قلب المجتمع الأميركي المعاصر»، وتسخر بأسلوب تراجيكوميدي من العنصرية المتجذرة حتى في القرن الحادي والعشرين. سليل مارك توين كما لقّب، انتقل أخيراً إلى لغة الضاد عن «منشورات الجمل». روايته The sellout أدخلت كاتبها نادي الـ «مان بوكر» (2016) ليكون أول أميركي ينال الجائزة البريطانية خلال سنواتها الـ48. إنّها رواية عن Me الذي يريد إعادة نظام الفصل العنصري والاحتفاظ بـ «عبد» في مدينته ديكنز في لوس أنجليس. تتطور الأمور لتصل إلى أروقة المحاكم حيث يواجه Me الولايات المتحدة الأميركية!يبني الروائي الأميركي بول بيتي (1962) معمارَ روايته «الخائن» (2015 ـــ The sellout ـــ صدرت ترجمتها العربية أخيراً عن «منشورات الجمل» ـ ترجمة عهد صبيحة)، بمداميكَ من فانتازيا غرائبيّة تُمكِّنه من أن يُدرج أشكالاً مفزعة من القصص الساخرة عن بطل حكايته الذي يدعى «Me» كتسمية لها مغزى مضاد لتجمّعات السود/ أبناء عرقه الذين «يتبجّحون» بشعار «جسدٌ واحد، عقلٌ واحد، قلبٌ واحد، حبٌّ واحد». كأنهم كتلة مصمتة غير متمايزة تلغي «فردانية» كل منهم لمصلحة حشرهم في «العقيدة السوداء» كعلامة تجارية رائجة أو «ماركة مسجلة» تُمنح لهم كجائزة في مدينة ديكنز من ولاية كاليفورنيا.
ليس أفضل من هذه الحيلة السوريالية ليجعلنا نصدّق أن صبيّاً «زنجيّاً» يصبح فأرَ تجارب في مختبر والده «الزنجيُّ الهامِس في أذن المرضى» والمهووس بنظريات غريبة عن «سيكولوجيا التحرر» عند العرق الأسود المتأرجح برأيه بين نظرية «تأثير المتفرِّج» التي تقوم على انتفاء روح المساعدة في مجتمع السود، ونظرية «تأثير المحاكاة» التي جعلتهم قساةً ودكتاتوريين أكثر من مضطهديهم البِيض، متحولين إما إلى مجموعةٍ من «مستذئبين سود» يبدون مثقفين ومهذبين. لكنهم مع كل اكتمال دورة قمرية تنمو أنيابهم ويجوسون داخل مدنهم بحيث يمكنهم العواء تحت ضوء القمر مع الماريجوانا وموسيقى البلوز، أو يتحولون إلى «أخويّةِ متملّقين» غائصين في مستنقع الغيتو الضبابي لتمساح المجاري «فوي شيشاير» الانتهازيّ الأسود المتخم بالهراء وأوّل من أطلق على Me تسمية «الخائن» بحجة أنه تخلّى عن إرث والده وتقاليد جماعة «مفكّرو دونات دُم دُم»!
روحٌ تهويميّةٌ جارفة تسخر من كل شيء بنكهة قاسية جعلت بطل الرواية وهو في قاعة المحكمة بتهمة محاولة إعادة التمييز العنصري بين البيض، والملوّنين المتواجدين في الولاية، ينفلت بإشراقات تهكّم طاولت حتى وجوده الذي لا يعدو كونه «حرباء أفريقية» وُضِعتْ في قفص اتهامٍ لحيوانات كبيرة يُشار إليها من قبل قاضٍ نكِدٍ يشبه طفلاً متعجرفاً يصرخ مهلّلاً: «هي ذي أخيراً»، كأنه اكتشف كائناً غريباً يستحق أن يُعرَضَ في متحفٍ طبيعيّ. بل يصبح ذاك القاضي/ ممثل الدستور الأميركي بشعاره الفجّ (العدالة للجميع تحت القانون) «حرباءَ بقدمين نحيلتين تُحكِمان الإمساكَ بأوراق العدل بحذر؛ وبهدوءٍ تقضِمُ أوراق الباطل»! ولعلّ مظاهر الكوميديا الفاقعة هي ما جعلت النقاد في أميركا – بحسب بيتي نفسه- يناقشون تجلياتها داخل هذه الرواية ناسين الأفكار الجديّة التي تختزنها. إذ إن صفة الهزل تلك ما هي إلا قشرة سُكّرية غلّفت حبات اللوز المرّة أو كرات الشوكولا السوداء التي تترك طعم العلقم عندنا كلما توغلنا أكثر في أدغالها المتشابكة!
روحٌ تهويميّةٌ جارفة تسخر من كل شيء بنكهة قاسية


تتناسل الإحالات والإشارات المغرقة في تفاصيلَ محليّةٍ لـ«غيتو» السود ذاك إلى درجة تُشعرك بالغثيان. تتجاوز كونها حيلة أدبية متعمَّدة لجعل القارئ يعايشَ إحساس الغريق، إنما تتحول في كثير من مواضع الرواية إلى فائضٍ يشوِّه مسار السرد المتدفق ويتركنا نعاني من ضجرٍ خانقٍ لم يُخْفِه حتى المترجم عهد صبيحة. وهنا، لا بدّ من الإشادة بترجمة قدّمها بجهدٍ واضح جَعَل الرواية نصّاً موازياً مستساغاً ومريحاً للقراءة قدر الإمكان!
قد يشبهُ بيتي في أسلوبيته مَنْ يضع في غرفةٍ واحدة كلَّ ما يمكن من قطع ثمينة إلى جوار تلك الخردوات التالفة، لكنه يفعل ذلك بترتيبٍ مدهش. وعلى رغم متاهة الاستطرادات والجمل المتناسلة الطويلة بلا وقفات والأبعد ما تكون عن البلاغة أو التكثيف، إلا أن لغة بيتي تمتلك مشهديةً سينمائية عالية تذكّرنا بأفلام هوليوود السوداء، مثل مشهد «كيلو جي» الزنجيّ الأحمق وهو يصرخ في قصيدة للشاعر الإنكليزي ألفرد تينيسون، والمشهد الدراميّ لفوي شيشاير وهو يدلق طلاءً أبيضَ فوق رأسه وجسده وثيابه ويهجس بحواريّةٍ ممجوجةٍ مشوَّشة عن «وقاحة» غريمه Me، أو تلك المقاطع التي يخبرنا فيها عن مقتل «الأب». إذ تتهادى أمامنا مشاعرٌ جوّانية مفاجئة، ليبرز سؤال الهوية الحاضر في أعماق كل أميركي/ أفريقي، فيأتينا الجواب العاطفي من قبل Me: «أنا مدينتي ديكنز؛ أنا كنتُ والدي». جوابٌ يُحيله بضربةٍ من مِخلب الوجد إلى التفكير بالعلاقة مع المكان، مع الذات، مع الأب وكل ما يمثّله، ويوقظ فيه ذاك «الحنين الأوديبيّ الذي جعل الرجال يقومون بكل أنواع الهراء وبأكثر الحاجات أهميةً؛ حاجة الطفل إلى أن يُسعدَ أباه»، ويوخز قلبَه بالحضور الأبديّ لأمِّه الغائبة/ موديلِ الجمال في مجلات الموضة و«التي لم يرضْع منها ولا رشفة حليبٍ واحدة»!
قهرٌ عميقٌ وعَطَنٌ متجذّرٌ في جينات السّود الذين تتحدث عنهم الرواية يتبدّى لنا تباعاً بعد أن تصدمنا نفحة الضحك اللاذعة. يجعلنا الروائي نصدّق للحظات أنّ «هوميني»، ذاك السينمائي الفاشل، «البهلوان الزنجي» المازوخيّ قابلٌ فعلاً لأن يكون «عبداً» مغموراً بسعادة العبودية التي تمنحه الإحساس بأنه موجود مثل «كلبٍ يحكّ مؤخرته عند الباب»، بل مثل مجنونٍ يعوم في القذارة ولديه من الصفاقة الغريبة لكن المحببة، ما يجعله يصنّف الناس بحسب لون بشرتهم: «إن كنت أسود فارجع إلى الخلف، أبيض إلى اليمين، بنيّاً فَدُرْ في المكان، أصفر فالحقِ البِيضَ وابتهج!». تهويماتُ الراوي/ البطل هي أقسى أشكال التعبير سخريةً من التمييز العنصري، خصوصاً حين يُطلعنا على أن مدينته «ديكنز» آخذةٌ في الإمحاء في استباقٍ رمزيٍّ قاسٍ إلى الرعب الكامن من فكرة أو من الاحتمال التخييليّ لاختفاء عِرقٍ بأكمله من خريطة الوجود!
من هذه الاحتمالية القاسية، ربما سنجد حزناً متغلغلاً في طيّات الأحدوثات التي رواها لنا بيتي، ألماً محفوراً في روح «كائنات» الرواية مثل جُرحٍ يَنزُّ كلما مرّت في بالهم موسيقى جاز موجعة تجعلهم يختبئون خلف أقنعة البياض كأنَّ الصفةَ «أسود» ملطخةٌ بما فيه الكفاية لتجعلهم ــ وبمجرّد نُطْقها ـــ يصبحون فعلاً زنوجاً حتى لو شعروا بأن تنصيبَ «الرجل الأسود» رئيساً هو نوع من تسديد دينٍ قديم من قبل الولايات المتحدة الأميركية تجاه السود. لكن: «ماذا عن الأميركيين الأصليين؟ اليابانيين؟ المكسيكيين؟ الفقراء؟ الغابات؟ الماء؟ الهواء؟ نسر كاليفورنيا اللعين؟ متى تُسدّدُ ديونُ هؤلاء؟!». أسئلةٌ موجعة ستبقى أجوبتُها رهنَ ثقوب سوداء لزمنٍ مديدٍ قادم!.