في صباح خريفي هادئ، ضمدت كندة جراح روحها وجمعت بقايا انكساراتها، وأبدت تماسكاً كاذباً وأخفت دموعها وراء ابتسامة متكلفة أثناء تناولها وجبة الفطور مع عائلتها. وبعد أن ألبست ابنها الصغير ملابسه، خرج برفقة والده أنس من المنزل بانتظار حافلة رياض الأطفال، بينما بقيت ابنتها لينا ذات العام الواحد جالسةً على كرسيها الصغير تلعب بلعبتها القماشية.توجهت كندة نحو المطبخ الأبيض الأنيق لإعداد قهوة الصباح، فأدارت إبرة جهاز الراديو لتنبعث منه أغنية رومانسية ترافقت مع ضربات قطرات المطر الخريفي على نافذتها، إلا أنها لم تكن تعي هذه الصورة الجميلة، إذ كانت تحدّث نفسها بعيون دامعة وصوت متهدّج: سأواجهه اليوم بكل ما سمعت ليلة أمس، وليحدث ما يحدث لعل النار التي تشبّ بين أضلعي تنطفئ.. ثم تتراجع ماسحة دموعها بيدها لتهمس لنفسها: سأشاور والدتي أولاً.
وحال عودة أنس، سكبت كندة القهوة الساخنة في الفناجين المذهّبة الراقية المخصصة للضيوف لتلفت انتباه زوجها، ولكن الجهاز الخليوي الخاص به أصدر رنيناً خافتاً فترك فنجان القهوة، وخرج من الغرفة مهرولاً وتحدث هامساً محاولاً إخفاء ما يقول. فصارت الكلمات التي سمعتها كندة من زوجها خلسة بالأمس تدور في رأسها على هيئة أصوات متداخلة.. فقد سمعته يقول: أهم ما في الأمر أن نتعامل معاً بسرية تامة حتى نتمّ الأمر.
ذرفت كندة الدموع الساخنة ووجمت.. فتأمل زوجها وجهها الجميل وعينيها الخضراوين المحمرتين جراء البكاء، وشعرها الأشقر الناعم المتناثر على كتفيها، فقال لها هامساً: حبيبتي الحزينة.. ماذا دهاها؟ فأشاحت بوجهها، فقال بعصبية: أنا أوفر لك كل ما تحلم به المرأة من ملابس وأدوات تجميل ووسائل ترفيه، وها أنت تقطنين في منزل أنيق مجهّز بكل ما هو عصري. فقالت كندة بتحدٍ: أريد أن أكون وحدي في قلبك.. متربعة على عرشه. فزمجر قائلاً: أنا أعمل وأكدّ طيلة يومي، وحين أود أن أنال قسطاً من الراحة في منزلي أراكِ إما واجمة أو باكية. وأردف قائلاً: لقد بردت قهوتنا.. احتسي القهوة بمفردك.. صباح سعيد. ومضى دونما وداع مغلقاً الباب خلفه بعصبية.
أخذت كندة تنتحب مصدرة نشيجاً حزيناً واتصلت بوالدتها التي دعتها لزيارتها. حالما أنهت أعمالها البيتية توجهت نحو منزل والدتها برفقة ابنتها لينا وارتمت بين أحضان والدتها باكية حالما فتحت لها باب المنزل.. فطلبت والدتها منها إعداد فنجانين من القهوة لعلها تهدئ من روعها. وأثناء احتسائها للقهوة في غرفة الجلوس الواسعة ذات الأرائك الوثيرة والجدران البيضاء المزينة بالآيات القرآنية النحاسية، ابتدأت كندة الحديث قائلة: أظن أن لأنس عشيقة يحادثها ويواعدها يومياً. ثم أجهشت بالبكاء. فسألتها والدتها عن الدليل الذي تملكه بهذا الخصوص. فحدثتها كندة عن محاولات أنس الدائمة لإخفاء كل أحاديثه عنها، وعن تغيبه المتكرر عن المنزل وعما سمعته ليلة الأمس. فأطلقت الأم ضحكة طويلة قائلة: زوجك خرج للتو من عباءة والده التاجر الثري المعروف في حلب، وأصبح لديه تجارة وأسرار تخص عمله. وتابعت الأم قائلة: عندما كنت في مثل سنك لم يكن لدينا من وسائل الاتصال سوى الهاتف الذي يتوسطه القرص الدائري المتحرك، وفي تلك الأيام كان والدك يحذرني من البقاء في الغرفة التي تحوي الهاتف أثناء مكالماته الهاتفية. وكان والدك يقول دائماً: التاجر لا يعطي أسرار عمله إلا لشركائه.
توجهت كندة نحو باب المنزل لتفتحه حال سماعها صوت رنين جرس المنزل، فأطلت الخادمة الآسيوية زمزم حاملة بيديها أكياساً بلاستيكية ملونة تحوي عدة صناديق كرتونية، فأخذت الأكياس من زمزم وتوجهت نحو المطبخ البني الواسع. حملت زمزم لينا الصغيرة وتوجهت نحو الشرفة ذات الأطاريف الرخامية وجلست برفقة لينا على الأرجوحة الحديدية الملونة لتتابعا معاً الشارع العريض المزدحم بالسيارات ولتستنشقا رائحة الأرض بعد هطول المطر الخريفي. في تلك الأثناء كانت كندة ترتب صناديق الحلويات الفاخرة في الثلاجة وتساعد والدتها التي تعد العدة لاستقبال الضيوف مساء ذلك اليوم. نادت الوالدة زمزم وطلبت منها إعداد شراب الورد ووضع الفستق المملح في الصحون الكريستالية، لتعود الأم برفقة ابنتها لغرفة الجلوس ولتقول لها بلهجة لا تخلو من عتاب رقيق: دخلتِ المنزل اليوم شاكية باكية بلا أي مبرر سوى الأوهام التي تملأ رأسك، كوني أكثر حكمة فأنت أم لطفلين وسيدة وربة أسرة. أطرقت كندة خجلة، فقالت والدتها محاولة تغيير الحديث: البارحة زودتني أختي أم سامح ببطاقات دعوة لحضور حفل زفاف ابنها سامح. وتوجهت نحو غرفة نومها لتعود حاملة بيدها بطاقة دعوة ضمن مظروف أبيض اللون مزين بشرائط حريرية بيضاء اللون، أخذت كندة المظروف وأخرجت منه بطاقة الدعوة وأثنت على طباعتها الراقية وحروفها ذهبية اللون وغلافها المميز كما أبدت إعجابها بالصالة الراقية التي سيقام بها الحفل المخصص للنساء فقط. وهنا بادرتها أمها قائلة: إياك ثم إياك إشغال نفسك بتوافه الأمور.. عليك صب جل اهتمامك على مظهرك يوم حفل زفاف ابن خالتك سامح، عليك الاهتمام بأدق تفاصيل زينتك بدءاً من العناية ببشرتك وتغيير لون شعرك انتهاءً بالعناية بأقدامك.. أريدك متميزة لأفتخر بك.
وحال خروج كندة من منزل ذويها شعرت بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقها، وفي منزلها جلست صامتة واجمة تفكّر بأحدث صيحات الموضة وأفضل مساحيق التجميل، كما قامت مساء بصنع قناع من الليمون والعسل وطلت وجهها بذاك القناع، وبعد إزالته اتصلت بصديقاتها لتسألهن عن أمهر المزينات في حلب.
في تلك الليلة تلقى أنس مكالمة هاتفية تخص عمله، وكالعادة خرج من الغرفة ليحدث شريكه بعيداً عن مسامع كندة التي لم تلقِ له بالاً، بل على العكس أخذت تقلب باهتمام مجلة نسائية للأزياء، وحين أنهى أنس مكالمته عاد للغرفة ليجد زوجته غير مكترثة، فشعر بالغيظ وكاد ينفجر على الرغم من أنه كان يتضايق من تصرفاتها حين كانت تلاحقه وتتنصت عليه، فحاول إغاظتها قائلاً: هل تهتم المرأة بجمالها أكثر من اهتمامها بزوجها؟ فأجابت: تهتم المرأة بجمالها أكثر من اهتمامها بأوهامها.. وتابعت تقليب المجلة. فقال أنس هامساً في سره: متى غدت كندة فيلسوفة؟
* حلب/سوريا