كانت الرؤيا تقول صوراً عن دمارٍ يليه دمارٌ يليه دمار، وكان أطفالٌ هم أجنّةٌ في بطون أمّهاتهم ولأنها رؤيا صاروا أطفالاً لا يعرفون من الحقيقة سوى البكاء ونقص الحليب والبرد، وكُنَّ نسوةٌ لا يعرفن من الثياب سوى لونٍ أسود باهت من كثرة ما غُسل ثم نُشر ثم لُبس، وكان ارتجافٌ يهزأ برؤوس الآباء فلا يكتمل منامٌ معهم ولا يعرفون ماذا يقولون إذا كبرت الأجنّة وصارت أطفالاً ثم شباباً، وصاروا يسألون آباءهم: «بأي ذنبٍ ولدت». لكنّ الحكاية ليست هكذا، لا يجب أن تبدأ بـ « كان» مثلاً، يمكن أن أبدأ بفعلٍ حدث في الماضي وما زال مستمراً حتى لحظة الكلام ويمكن أن يستمرّ إلى ما بعدها وأتحدث عن دولابٍ كبير يركبه أطفالٌ مع عائلاتهم، سياراتٌ يقودها الآباء منتصرين لمدة خمس دقائق – مدّة صلاحية التذكرة - قطارٌ يمشي في دائرةٍ يبتعد فيها الأطفال عن أمهاتهم ويبدأون بالتلويح كلّما التقت العين بالعين ناسين حين يكبرون نفس اليد التي لوحت سابقاً مع فارق الابتسامة أيام ركوب القطار والدمعة حين ينخلع القلب في هذه الأيام.
الخيال يشبه الواقع ولا يكونه، الخيال أجمل، لا يترك للحياة أن تعبث بمفاصل اليوم ولا يسمح لها بكسرنا مرتين فوق بعض في نفس الحلم على الأقل، الخيال لعب الطفل مع أبيه في مدينة ألعابٍ يملكها جدّه، وحكواتيٌّ يخترع حكايا ليس فيها غيلانٌ ورصاصٌ وصيدٌ وانفجارات وسماءٌ داكنة، الخيال سماؤه دائماً زرقاء، ولأنها زرقاء يحب الصغارُ الصيف.
لودْوَانْيِي رُوسو ـ «الحلم» (زيت على قماش ــ 1910 ـ تفصيل)

الحب إدراكٌ وفي الإدراك غواية المعرفة وصوت الرجال وشهوة لم تخطر ببال، الإدراك هو التمحيص في أشياء لم تكن تعني شيئاً، وصارت بمجرد بزوغ شعرٍ فوق الشفة العليا وتحت الإبط وفوق العانة واضطراباتٍ ليليّةٍ ترافقها نساء الحيّ العاريات، صارت الأشياء البلهاء في السابق أشياءً تعمّر فوقها مدناً وأحلاماً وحمّى دائمة تشغل الوالدة ولا تدري السبب، الإدراك يكسر الظهر فيستكين بلا حراك، السكون سابقٌ للحركة في أي زمانٍ وأي مكانٍ، إلا هنا، السكون يأتي ثانياً، لا لشيءٍ إلّا لأنّ إدراكك الذي هو حركةٌ بأي حالٍ كسر ظهرك فصرت سكوناً على أبعد تقدير، السكون هو الخيبة من كثرة ما انكسرت أحلامك فصرت تهزّ رأسك كلّما قيل لك: «بكرا أحلى». وكأنّك تسامح من يهزأ بعقلك وبكل ما كُسر فيك، تُسامح فقط حتى لا يُقال: «تغيّرت»، المسامحة هي الصفح ولا تعني الغفران، وربما كانت تعني، ليس لي طاقةٌ لأبحث عنها الآن وأنا أفكّر بصاحب الدكّان الوحيد في الحي حين رفع سعر الحليب وجعل أطفالي نصف جياعٍ فحرمهم النوم بسبب معدةٍ نصفها ممتلئ، سأخبر طفليّ حين يكبران وأدعهما يستردّان دينهما من أولاده، الصفح لا يعني الغفران أبداً، لي في رقبته ليلةٌ مع زوجتي حرمني منها جوع طفليّ. وعقلي الذي سبق فعلي فكبّله وربطني داخل بيتي حين كان يجب أن أُفلت.
أن تعقل يعني أن تنضج، النضج هو الهدوء في المشي والكلام وردود الفعل واتخاذ القرارات - حتى لو كانت خاطئة -، العقل ألّا تنشغل بالجزئي البسيط المهمل الغائب المغيّب المنسي غير المشاهَد، وأن تكون مع الكلّي الكبير الحاضر المذكور المرئي الموجود الدائم، أن تكون مع الكمّ لا مع النوع، مع القدرة لا مع رجفة اليدين أثناء الدعاء، العقل أن تنسى أن لك عقلاً هنا، وتقلّد مجانين مدينتك ثم تتأكد أنها الطريقة الوحيدة لتجاهل ملائكةٍ أهم صفةٍ تجمعها هي البلادة، تراهم في الشوارع والدكاكين والمقاهي والبيوت وغرف النوم ومواقع التواصل الاجتماعية، في مكانٍ آخر سأُقرّ أن الشياطينَ ملائكةٌ غابت عنها عين الرقيب، وأحب الملابس التي تُلبس على وجهين وأُفضّلها في مواجهة طقسٍ لا يعترف بالتصنيف، ويقرّ بالحرارة المفاجئة والحبوب والماء البارد على الجبين والسهر على حمّى ليست لك وليست لغيرك، هي طارئٌ فقط والطارئ يزول مهما دام بقاؤه، هذا آخر كلام قلتَه قبل أن تذهب في نوم عميق وتترك من تسهر عليه بلا رفيق، في كلّ ذهابٍ تفكيرٌ بآتٍ، وحنينٌ لماضٍ، هذه الثنائية لا يمكن لها أن تزول وفي كل ثنائيةٍ جسدٌ مهدورٌ بين خيارين والشيب وحده من يحصي الخسائر.
في حكايةٍ قديمة كان هناك فتاة تنتظر فارساً على حصانٍ أبيض يأتي ويتزوجها، وكانت تغنّي كل مساء أمام مرآتها كي لا يخطئ العنوان ويحمل جارتها التي تحمل نفس اسمها، ولأن كل الحكايات جميلة لم يُذكر أن صوت الفتاة شابَ من كثرة ما انتظر، والأمير صاحب الحصان مات بطلقة قنّاص، والقصر في الحكاية لم يكن إلا أغنيةً تجفف الوسادة قبل النوم.
لا أعرف كيف أنهي نصاً بدأ بدمارٍ يليه دمارٌ يليه دمار، وانتهى بزوجةٍ مؤجّلةٍ لم تر زوجها إلا في المنام فصارت أرملة.
الأفضل أن أضع نقطة هنا فقط والآن.
* سوريا