رجل يلعب الشطرنج ويجمع الفراشات! ولكنه قبل ذلك صاحب الرواية الملعونة «لوليتا» (1955)، والمنفيّ الأبدي. هناك أيضاً ما يمكن أن نضيفه إلى سيرة فلاديمير نابوكوف (1899- 1977) المشبعة بطبقات من الصور المتشعبة، تبعاً لدروب الترحال من بلدٍ إلى آخر. هذا التشظي في العيش، سيحكم أسلوبه العشوائي في سرد سيرته الذاتية «تكلّمي أيتها الذكريات» (1951) التي صدرت أخيراً بالعربية (منشورات الجمل، ترجمة حنان يمق). السيرة كتبها على مراحل، ثم أخضعها لمراجعة لاحقة، لترميم ما فاته في النسخة الأولى. يقول في مطلع سيرته: «ما أصغر هذا الكون، كم هو ضئيل وتافه قياساً بالوعي البشري، وقياساً بإمكانية إنسان واحد على التذكر، وقدرته على التعبير بالكلمات. قد أكون مبالغاً في ولعي بانطباعاتي الأولى، ولكن لدي أسبابي لأشعر بامتناني لها، لقد أوصلتني إلى جنة عدن حقيقية حسّة وبصرية». هكذا ستزدحم سيرته بوقائع مثيرة، هي الضفة الموازية لتاريخ القرن العشرين بكل اضطراباته وجحيمه وطغيانه.

كما أنها حصيلة تحوّلات صاخبة يشبهها بتحوّل اليرقة إلى فراشة هو المولع بصيد الفراشات «أنا متمرّد على هذا العبث. أشعر بضرورة إظهار تمرّدي وعصيان الطبيعة. بذلت مراراً وتكراراً جهوداً ذهنية هائلة لأميّز وميضاً خافتاً يخصّني في عتمة لا تخصّني، لكنها تحيط بطرفي حياتي». الروسي الذي هاجرت عائلته إلى أميركا، هرباً من البلشفية، وجد نفسه سجين ذكريات صادمة وزمن ضئيل بالمقارنة مع الوعي البشري. سوف تستدعي الذاكرة أولاً، طفل الخامسة في مواجهة «عجلة مجهولة مرّت فوق حياتي تاركة علامات معقّدة، لا تصبح آثارها الموحّدة ظاهرة إلا عندما يشرق مصباح الفن، من وراء أوراق دفتر مذكرات» يقول.
ستختلط عليه في مناماته عبارات بالروسية وأخرى بالإنكليزية بما يشبه الهلوسات الذهنية، متذكراً قلم الرصاص العملاق الذي أحضرته أمه له كهدية... الأم التي سيتعلّق بها كثيراً، ويفرد لها صفحات من مذكراته. هكذا ستنهار المنازل الأولى في ذاكرته بصمت «كما كانت تفعل في الأفلام الصامتة القديمة»، وسيحضر ولعه بصيد الفراشات إلى حدود النشوة، كأن هذا الولع هو الخط الموازي لسكة حياته بين جغرافيات المنافي «أعظم استمتاع بإحساس الخلود ـ في بقعة أرض مختارة عشوائياً ـــ هي حين أقف بين فراشات نادرة وبين النباتات التي تغذّيها. تلك هي النشوة» يقول. هكذا ستبزغ ذكريات وتخبو أخرى. صور داخل قرص الذاكرة المضيء «بينما يقوم فانوس سحري بعرضها على الشاشة».
على هذا المنوال، سنتتبع استدراكات المخيّلة في ذهابها وإيابها، إذ يستعيد بطرسبورغ كلما ابتعد عنها، بفضل دفتر مذكرات متهالك احتفظت به أمه حتى وفاتها في براغ. وهنا يستدعي صورة والده (المثقف النخبوي)، في سيرة ذاتية قصيرة. في الخامسة عشرة من عمره، داهمه الإلهام الشعري «كمبتدئ ساذج، وقعت في كل الفخاخ التي تنصبها النعوت الغنائية. كانت بعض الكلمات تخونني». وفي التوقيت نفسه، سيتعرّف إلى «تامارا» أول عاصفة حب في حياته، بالتوازي مع تولّي لينين والبلاشفة الحكم في روسيا، ما جعل والده يقرّر الهجرة إلى جزيرة القرم، لكن رسائل تمارا ستكون الإكسير السحري الذي أنعش لياليه في ذلك الزمن العاصف: «أثناء محاولتي لاستذكار الماضي، صُفعت بهذا الفاصل الذي شرخ قدري وقد منحني رعشة غيبوبة».
وقائع مثيرة تشكّل الضفة الموازية لتاريخ القرن العشرين بكل اضطراباته

بانتقال العائلة إلى لندن، انتسب فلاديمير نابوكوف إلى جامعة كامبريدج لتبدأ علاقته الجديّة بالأدب، ومعنى المنفى والإذلال غير المرئي في أوروبا، ثم انخراطه في تأليف لعبة الشطرنج. في الفصل الأخير من مذكراته هذه التي يهديها إلى حبيبته «فيرا»، يخاطبها بوصفها مرآة حياته وشريكة شغفه بالمحسوسات: «بدا أننا لم نكن نحن من يسافر، بل تلك الحدائق والساحات هي من فعلتْ. كل الجادات المشعّة الخاصة بنا، والرياض المتشابكة، قد تركناها وراءنا كالمقطورات التي انحرفت عن مسارها». ويختتم قوله بعبارة تلخّص سيرته الكاملة «لن نستطيع أبداً أن نتجاهل ما قد رأيناه، بعدما رأيناه».
رحلة طويلة من المكابدات، والبهجات العابرة، والزمن اللولبي، من بطرسبورغ إلى لندن وباريس وبرلين، ثم الهجرة إلى أميركا (1940)، ثم إلى سويسرا، التي ستشهد أيامه الأخيرة، وهو يتتبع أثر الفراشات في مدينة مونترو. وكانت مجلة الـ «تايم» قد اختارت في عام 2011، سيرته الذاتية من بين أهم مئة عمل أدبي في كل العصور، فيما وصفه الناقد الأدبي الأميركي جوزيف إبشتاين بأنه «رسّخ أسلوب السيرة القائم علي الانطباعات الذاتية من فهمنا لآلية عمل الذاكرة، والفضل في ذلك يعود إلى نثر نابوكوف الساحر، ومخيّلته الخصبة».
تنأى الذاكرة حيناً، ويستنطقها طوراً: تكلّمي.. تكلّمي أيتها الذكريات، لكن مطارحه الأولى سترافقه على الدوام، وفقاً لإحدى قصائده «هناك ليال يحدث لك فيها أنك ما إن تنام، حتى يطيرُ بك السرير نحو روسيا».