لن أذهب إلى مكان آخر، ها أنا الآن أمام مبنى محاط بالأشجار والأسلاك الشائكة، ترقد إلى جواره سفينة صيد مهجورة ويجلس قرب بابه جنديان، يحمل أحدهما بندقية بينما يطهو الآخر طعاماً فوق موقد صغير، قلت لنفسي: — يكفي هذا، سأنام هنا، تحسست الأرض بيدي، فاكتشفت مساحة مستطيلة بدت نظيفة وذات ملمس بارد، وضعتُ فراشي فوقها وتمددت، تأكدت من وجود دفتر أشعاري تحت المخدة واستعدت مقطعاً قصيراً كتبته هذا الصباح: في تلك الليلة العجائبية، بين أشجار حديقة سعدي، صرخت ثملاً، أيها الساقي يا شبيه الملاك، أعطني بعض النبيذ لأستيقظ، لقد أسكرني الجمال.
وضعت عنواناً مؤقتاً للمقطع هو: حديقة شيرازي البعيدة، سيظل يتردد في ذهني ولن أستطيع تدوينه، لن أستطيع تدوين أشعاري الأخرى أيضاً، إنها هنا في رأسي، أعيش في خيالاتها، وأتجول في طرقاتها اللا متناهية، لا أدري إلى متى؟ ما يهمني هو أن الحرب انتهت وصار بإمكاني أن أذهب حيث أريد، أنا أقرب من أي وقت مضى إلى حديقة شيرازي، ولكنها مع ذلك ستظل نائية وغامضة.
غويا ـ «سبات العَقل يُوَلِّدُ الْوُحُوش» (محفورة على ورق مُقَوّى ـ 1797)

كان بإمكاني وأنا على الأرض أن أرى الضفة الثانية لشط العرب في ضوء مصابيح متفرّقة، لا شيء هناك سوى أشجار نخيل تبدو مثل وحوش عملاقة تتمايل في الريح وتتهيأ للقفز إلى الماء في أية لحظة.
بعد أقل من نصف ساعة كنت أغط في نومٍ عميق، من بين أحلام تلك الليلة أتذكر حلماً وحيداً، رأيتُ امرأة تصرخُ فوق صخرةٍ كبيرةٍ: — تعالوا إليَّ يا أطفال الموت، تعالوا إليَّ، أنا أمكم، أنا الحرب الرؤوم، ثم ظهر رجل بثياب سود ولحية طويلة، كان يدفع عربة مثل عربات الأطفال ويلتقط رؤوس وأيدي وأرجل جنود قتلى مبعثرة على الأرض، كانت المرأة عارية، بلا عينين، ولها شفتان من زجاج أزرق، تحوَّل صراخها تدريجياً إلى أنين وتنهدات ثم توارت مثل دخان.
حين استيقظتُ رأيت طيوراً تحلِّق باتجاه الخليج وثياباً منشورة على شجرة قريبة وجنوداً يضعون صندوقاً كبيراً في شاحنة، وفي ظلال الحائط الطيني للمبنى الذي نمت قربه رأيت جندياً يجلس فوق صفيحة زيت، يدخّن وينظر إلى الأفق، ذهبتُ وتبوّلتُ خلف أجمة قريبة وحين عدتُ سألته كم الساعة فقال: — لا أدري، ربما السابعة أو أكثر.
سألني إلى أي لواء أنتمي وما الذي جاء بي إلى هنا فقلت له وأنا أجلس متصالب الساقين فوق فراشي:
— انتقلت وحدتنا قبل أيام إلى رأس البيشة في أقصى الجنوب، ركبت إحدى الشاحنات ولكنها تعطلت فتركتها وواصلت السير وحيداً، كان معي ثلاثة جنود، لا أدري إلى أين ذهبوا.
— نحن أيضاً انتقلنا إلى هنا قبل يومين، قضينا بضعة شهور هادئة فوق تلال الشيب، ثم حدث هجوم إيراني لم يتوقعه أحد، لم يستغرق سوى بضع ساعات.
لم أقل شيئاً، أشعل هو سيجارة ثانية واستطرد:
— كان معنا جندي غريب الأطوار، مؤدب وقليل الكلام، قُتِل للأسف في ليلة الهجوم تلك، ما زلت أتذكَّره وهو يواصل القراءة في ضوء شمعة ويردد أشعاراً ويدونها بقلم رصاص في دفتر يحمله معه، كان يشبهك تماماً كأنه أنت، حين فتحنا دفتره بعد مقتله لم نجد أي كتابات فيه، كانت صفحاته بيضاء.
أخذ نفساً طويلاً واعتقدت أن حكايته انتهت، لكنه أضاف:
— أتذكر أنه ظلَّ يردد في صباح اليوم الذي قتل فيه قصيدة عن حديقة تقع في مكانٍ ما في الشرق، لرجلٍ اسمه سعدي، هل تعرفه؟
لم ينتظر إجابتي، رأى جندياً يسير نحو الشاطئ فصاح به:
— إلى أين تذهب؟ انتظرني.
ثم نهض ولحق به، سار بخطى مسرعة دون أن يلتفت. نهضت أنا أيضاً وطويتُ فراشي، رأيتُ على السطح الإسمنتي ذي الجوانب المتآكلة، حيث كنت أنام، كلمات منقوشة بخط ركيك: الموت حق، هذا قبر جندي إيراني مقتول.
كنت أنام لليلة كاملة إذاً فوق قبر.
* العراق/ فنلندا