في روايته «روائح عنبرية» (دار الخيال)، يرصد الكاتب والقاص والروائي عزيز تبسي الواقع الحلبي السوري في أزمان متعددة بعين كاميرا سردية عبر عين الروائي في مشاهد بصرية يتراجع فيها الحوار، ويتقدّم المكان مشهداً وفضاءً، وخلفية اجتماعية للأسر والشخصيات. تستعرض الكاميرا الأماكن في مدينة حلب والشمال السوري وصولاً إلى الجنوب التركي، ويبين الكاتب مصير الجالية الأرمنية القادمة من هذا الجنوب إلى الشمال السوري، على خلاف مجموعته القصصية الأولى «يوم... كل يوم» (دار الفارابي - 2015) حيث كانت سنوات الاعتقال المديد (15 سنة) المنهل الذي غرف منه ذاك العمل وأعمالاً أخرى تنتظر نشرها في الفضاء الأدبي السوري والعربي. فتبسي (مواليد حلب ـــ 1962) يعيد صياغة التجربة الإنسانية بشكل قابل للاستيعاب في بناء المعنى الذي يكون ذا طابع إنساني عام، بدل أن تكون خاصة بثقافة معينة.
حلب بطل سردي
تطل كاميرا الروائي على الأسرة التي تسكن حلب بعدما جاءت إليها من تخوم الجزيرة السورية حيث تعمل نساء هذه الأسرة على استعراض التقنيات المهارية التي تنقل منتجات الطبيعة الغذائية عن طريق الطهي، وتحول كل نيء إلى مطبوخ، وتتلاعب به عبر إضافة البهارات والتوابل وخلاصات الأعشاب. أفراد هذه الأسرة لم يستقرّوا في مكان محدّد في المدينة: نزلوا في الأسابيع الأولى ضيوفاً على الخالة «وردة» الأخت الكبيرة لأمهم «فردوسة» الكائن في أطراف حي السليمانية. وبعدها، وصلوا إلى حي العزيزية حيث بدأ العمران في أراضيه القفراء. وحمل قسم منها اسم أرض المشنقة، من أواسط القرن التاسع عشر. تدخل عين الكاميرا إلى حي «الجميلية» ذي الأسلوب المعماري المتحرّر من الأحياء القديمة في العمارة. هناك، استأجروا بيتاً واسعاً من بيوت الحي في عمارة عجزوا عن التواصل مع سكانها، رغم محاولات اقتحام أبوابهم الموصدة. وتزور الكاميرا قنطرة «جسر الصوفي» الذي بني في عهد الانتداب الفرنسي عام 1937، وأسند مرفقيه على السياج الحجري، الذي مال بجذعه ليرى وجهه يرتجف على وجه المياه المتدفقة.

وتصفه الكاميرا بأنه ليس جسراً كبيراً. إنه قنطرة يجتازها العابرون نحو الطرقات الصاعدة إلى المقابر المسيحية المتلاصقة. وعلى الطرف الآخر، بوابة المقبرة العسكرية الفرنسية، ومقابلها مشتل الورد والنباتات المقمطة بأكياس بلاستيكية شفافة. وعلى امتداد مشتل الورد، مطعم «دو-ري- مي» الذي حار المعلم «خجادور» في تسميته كي لا يزعل الخليط السكاني. فإذا اختار اسماً عربياً، سيحنق الأرمن والأكراد والتركمان والشركس، وإن اختاره أرمنياً، سيتضايق الآخرون فهو لا يريد أن يتسبب بضيق لأحد، لذلك اختار الخطاط اسم «دو- ري- مي».
وتعود كاميرا عين الروائي إلى بيت الخالة «وردة» الأخت الكبرى للجدة «فردوسة» الذي شيّد حجرة حجرة حتى ارتفعت العمارة التي يربض فوق أساسها العميق المرصوص بالحجر المدكوك، مستودع الحطب والطحين، يعلوه الفرن قبل الطابقين الأول والثاني، بشرفاته الحجرية، وسوارهما الحديديين، المشغولين بحذاقة أرباب المهن العتيقة.
تدخل الكاميرا إلى عمل «سركيس» في فرن حي «الحميدية» في الأعوام التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وعشقه لشابة يقيم خالها الصائغ في «حي النيال»، ونقل عموم الخبازين إلى «قشلة الترك» للعمل تحت إمرة الضباط العثمانيين، مما دفعه للهجرة إلى مصر حيث لم يوفق، فيعود ليستأجر فرناً من عائلة «هليل» على أطراف حي «الوكيلية»، بينما أفاد الخياط جرجي سمعان من التسهيلات التي منحها الملاك الأكبر لبساتين وعقارات حي «السليمانية»، فتقدمت نحو هذا الحي الجديد الفئات الشعبية والمتوسطة، وهي غير تلك الأرستقراطية التي سكنت الجلوم والفرافرة والبياضة أو خارج الأسوار كالصليبية والجديدة وبانقوسة.
إن الفضاءات المكانية في الرواية مشبعة بظلال المهن الجذابة والمستفزة على القراءة واكتشاف كيفية تشكل عدد من الأحياء الحلبية، بخاصة أنها لا تقدمها من زاوية الاستعراض المكاني، وإنما تربطها بمصير وتطور حياة شخصيات الرواية.

السياسة في الرواية

يربط عزيز تبسي بين الأحياء الحلبية والتطورات السياسية في البلاد، حيث يتناول هذه الشخصيات من خلال انعكاسها الاجتماعي في المدينة. بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، دخلت البلاد مرحلة عدم الاستقرار السياسي (سلسلة من الانقلابات العسكرية غير واضحة الأهداف، عوَّضت عن سلبياتها، حالة من النهوض الاقتصادي، قادتها البورجوازية السورية في زراعة المحاصيل الكبرى كالقطن والقمح والشعير، عبر توسيع مساحات الأراضي الزراعية، وإطلاقها مجموعات من الشركات الصناعية)، ليصل إلى الوحدة السورية- المصرية التي بدأت بإلغاء منهجي وحاسم، للحياة السياسية الموروثة من عهد الانتداب الفرنسي، لتنتقل إلى «تأميمات للملكيات الاقتصادية الناشئة، وانزلاق أقدامها على زيوت الشعبوبية ودهونها، لتتآكل ذاتياً بضعف البدائل السياسية، وفشلها في تقديم أيّ إنجاز اجتماعي- سياسي، يمايزها عن الحكم الذي سبقها» (ص23).
أما المحطة السياسية الثانية التي يقف عندها تبسي، فهي حرب حزيران 1967 حيث ينتقل جزء من العائلة مكوّن من زوجتين شابتين وأربعة أولاد، إلى قرية أهل «شجرة الدر» زوجة «السموأل» القريبة من بلدة مصياف. إذ إن الجميع كان يعلم أن الحرب انتهت، باستثناء هذه العائلة. لكن توصل الشقيقان، إلى قناعة متماسكة عن احتمالية وصول الجيش الصهيوني، إلى مدينة تبعد عن الجبهة الحربية، أكثر من 400 كيلومتر، متجاوزاً كمائن فرقة زنوبيا للرقص الشعبي، وخنادق فرقة السماح للرقص التراثي، والتهديدات المنذرة للمطربة «كروان» التي هددت وحددت كلفة من يعبر الحدود بعشرة قروش، والهدير الناري للمذيعين خلدون المالح ومهران يوسف وهما يدميان العدو ومن يسانده، بالآلاف نشرات الأخبار ومواجيزها، فضلاً عن الغضب الساطع فوق جباه ميليشيات الحزب الحاكم.
ويسخر تبسي من حالة اللاحرب واللاسلم، حيث يصفها بأنها مشكلة بحد ذاتها، ولم يتبيّن وضع الجيش بلا حرب، فينتقل بخفة راقصة باليه من نصر إلى أخيه، والحزب الفاضل كسيدة تتهيأ لصلاتها، والثورة الحنونة تحملهم على أكتافها لتعبر بهم حقول المؤتمرات إلى مهد الطمأنينة الطفولية.
الفضاءات المكانية مشبعة بظلال المهن الجذابة


ويكشف تبسي عن التحولات التي ظهرت في المجتمعات العربية، منها ظاهرة حضور الحياة الأميركية فيها من خلال انتشار «الجينز والكاوبوي الأميركي» التي تزامنت مع نهاية آخر حروب الأنظمة مع الكيان الصهيوني، وتحول بنادقهم وجيوشهم إلى سحق أي حركة شعبية والتلويح بتفجير الاقتتال الأهلي، كما في شمال العراق ولبنان وإقليم ظفار والصحراء الغربية وجنوب السودان، وتفعيل التمايزات المبنية على الهويات الدينية والطائفية والعشائرية والتدين الظاهري، والاندفاع نحو الخرافات كقراءة المستقبل عن طريق الأبراج الفلكية والكف والتبصير بفناجين القهوة وورق اللعب والودع.
أخيراً إن تعقب الأمكنة التي نزلت فيها الأسرة في الرواية، يحتاج إلى فرز دقيق للتعرف على المساكن العشوائية في حلب، بالإضافة إلى البستان ومطعم «دو- ري- مي» والنهر وتأثيرها، بينما المحطات السياسية متناثرة بين سطور الرواية عبر أكثر من شخصية مثل «امرؤ القيس»، و«السموأل»، وكذلك قراءة هذه الشخصيات من منظور الروائي لهذه المحطات.
إن قراءة السرد في الرواية يحتاج إلى قراءة أخرى إذا علمنا أن صوت الراوي يطغى على كل أصوات الشخصيات ويحركها كيفما يشاء، لأن صوت الراوي/ صوت الكاتب الذي يسرد حقائق قائمة من الحياة الحلبية في محطات خاصة به. رغم ذلك، فرواية «روائح عنبرية» تخطف القارئ من واقعه اليومي إلى واقع آخر مضى بمدينة حلب السورية.