كتاب «محمد ــــ السيرة السياسية» (دار الفارابي) لنصري الصّايغ ينضوي ضمن المحاولات النقدية الجذرية في مقاربة المقدس من خلال طرح أسئلة علميّة، يُراد من خلالها التفكيك الممنهج، ليصار إلى استنتاجات لا يغلّفها الغموض، أو يسكنها المجال الخرافي. وهذا ما جعل الفكر الديني في مساره التاريخي، تحت مجهر السؤال المستمر، لا سيّما الأنبياء الذين سطّروا الرسالات السماوية بتدبير مباشر من الوحي، وإن كان الوحي أيضاً في البحث النقدي يخضع لميزان النقد عند كثير من الباحثين.في كتابه، يبدو أنّ نصري الصايغ قرّر كشف الحقيقة المعرفيّة التي مكّنت محمّد من تأسيس رسالة إسلامية عظيمة، بإرادة ذاتيّة، واعية، تخضع لناموس الفكر البشري، ولكلّ إرهاصات العمل البشري من دون تدخّل الغيب في رسم مسارات البشر. هنا تكمن الإشكاليّة الكبرى، التي عمل الكاتب على تبيانها، من خلال تحليل دقيق لمسيرة النبي محمد. لذا، أعلن الصايغ أنّ كتابه «ليس كتاباً في الدين. إنّه كتاب في السياسة» (ص9). لكن هل الإسلام يفصل الدين عن السياسة؟ وهل يمكن فصل شخصية محمّد عن البعدين الديني والزمني؟ وفي هذا يدور نقاش عميق، ومتوتّر في كلّ مبحث فكري يتناول هذا الجانب. يقول الكاتب: «السياسة بنت الاختيار بين احتمالات متاحة، وتصوّب بمنطق التجربة والخطأ. في النّبوة، يصدع المؤمنون تصديقاً.


في السياسة، اختبار واختيار، احتمالات ومستحيلات، تفكير ومشورة، تقدّم وتراجع، وقائع بحاجة إلى إدراك، وأحداث بحاجة إلى إحاطة... هذه كلّها من أعمال العقل» (ص9). يفيد هذا المعنى بأنّ العقل لا يمكنه أن يخضع للغيب، أو أن يصبح البعد الغيبي الإيماني هو المحرّك لأعمال الرسول، وهذا ما يريد أن يؤكّده مضمون هذا الكتاب: «محمّد يصنع الحدث، ومن ثم تأتي الآية، أي النّص القرآني كردّ فعل للحدث، وهذا يخالف مرتكزاً عقائدياً يقوم عليه أتباع الإسلام، الذين يرون الوحي هو المحرّك للنبوّة». لكنّ نصري الصّايغ يرفض الشروط المسبقة، كما يرفض الاعتقاد الإيماني الراسخ، بمعنى أنّه أقبل على شخصيّة محمّد من موقع المحايد، الخالي الذهن من المعرفة الإيمانيّة الدقيقة للإسلام، والوحي. وهذا، كي يصل إلى معرفة تقوم ركيزتها على العقل فقط، ليس لكسر المقدس، بل لتبيان آليّات الصيرورة التاريخيّة للبشر، والرسول ينطبق عليه هذا المعنى: «الخشية من المقدس يجعل السيرة النبويّة، فاقدة لعلاقاتها الوقائعيّة. مثل هذه الخشية تُضعف الصورة الناصعة لشخصيّة محمّد غير الأسطوريّة، شخصيّته الواقعيّة، كما يفترض رسمها تاريخيّاً، ومن دون أيّ مبالغة، أو محاولة أسطرة، استطاع أن يقول للتاريخ السابق على الإسلام: قف» (ص37). فهل أراد الكاتب على غرار معروف الرصافي أن يبحث عن الشخصيّة المحمديّة وحلّ اللّغز المقدّس، أم أنّ الصايغ لا يلتفت للمقدّس على اعتباره حقيقة قائمة، بقدر ما يجد في شخصيّة محمّد القوة التي جعلته يحقّق الإسلام بعقل سياسي يدرك المصالح، ولعبة النفوذ؟ لذا، أفرد الفصل الأول باباً للخروج من الأسطورة، إلى الموضوعيّة: «ظلال كثيرة تحجب الشخصيّة الموضوعيّة بملامحها الواقعيّة» (ص35)، مع ما جاء مع باب «الخروج من الأسطورة»، أي التشكيك بالتراث، والتاريخ، لأنّ ولوج الموضوعيّة الدقيقة يحتاج إلى منهجيّة دقيقة، ووثائق مدمغة، ليس نقلاً عن، أو بناء لمرويّات تحتاج إلى تمحيص وتدقيق. وهذا ما يرفضه الصايغ، إذ يرى أن لا «تاريخ حيث لا وقائع، وللوقائع أرضيّة وجود وتميّز، كلّ ما ليس كذلك ينتمي إلى الأسطورة، أو إلى عالم الفكر المجرّد والمخيال الحر. عمليّة التمييز بين الوقائع والبدائع (من بدعة) لا تتوفر شروطها في كتابات تنتمي إلى أرومة التّراث كما كتبه السلف، وكما ابتدعه الخلف» (ص 37).
إذا، هي إشكاليّة التراث والسلف، وهنا المقتل، كأنّ الكاتب يذهب إلى المعالجة انطلاقاً من «الحداثة»، ناهيك عن احتمالات وتأويلات الحداثة في المصطلح، والتحليل. المفكّر نصر حامد أبو زيد دعا إلى قتل القديم بحثاً، بل أكثر من ذلك، أشار إلى أنّ هناك «مركزاً في التاريخ الإسلامي اعتمد على تحالف سلطتين: الأولى هي السلطة الدينيّة المتمثّلة في مرجعيّة النص الديني. الثانية هي السلطة السياسيّة المتمثّلة في مرجعيّة الخلافة. وهذا التحالف كان لمصلحة السلطة السياسيّة بالطبع». فهل قصد الصايغ هذا البُعد في الهروب من كلّ تاريخ لا يحمل الوقائع؟ وهل الوحي خارج إطار الوقائع، فقط هو في العقل المجرّد، أول المخيال، وهذا دأب عامّة الناس الذين يخشون ملامسة المقدّسات انطلاقاً من قدسيّة النصّ والتراث في آن؟ لكن هذه الخشية عند نصري الصايغ: «الخشية من المسّ بالمقدّس يجعل السيرة النبويّة، فاقدة لعلاقاتها الوقائعيّة» (ص37). لذا، عزم على تحليل الوقائع في حياة محمّد استناداً إلى البيئة، والواقع، ومجريات الحياة بكلّ تفاصيلها في عصره، زمانه ومكانه. لكن هل يمكن قراءة هذه الشخصيّة التاريخيّة والدينيّة من دون المنظور الغيبي، والفكر الديني؟ علماً أنّ النصّ القرآني أشار بوضوح لا لبس فيه إلى بشريّة الرسول محمّد، الخاضع لناموس الحياة البشريّة، في العيش، والعمل، والموت.
في الفصل الأوّل من الكتاب أيضاً، يعرض الصايغ لعداوة رجال الدين للفكر، خدمةً لمصالحهم، بمعنى أنّهم يسخّرون النصّ الدينيّ انسجاماً مع المصلحة الخاصّة. يقول الصايغ في هذا المضمار: «الفكر خطر على رجال الدين، يفضّلون الآية على ما سواها، وينتقون الآية المناسبة للواقعة المتاحة، والظرف القائم» (ص39). لذا، اعتبر أنّه «باسم الدفاع عن الدين، يتمّ اغتيال التاريخ وإهمال الواقع» (ص39). ويشير الكاتب في «محمد» إلى القراءات المتعدّدة التي جعلت صورة «محمّد السياسي» في اختلاف النصوص «تخميناً لا يقيناً» (ص63). هذه خلاصة مفتوحة على نقاش تاريخيّ عقيم، وهذا ما يرفضه الكاتب، وإلا أين تكمن أهمّيّة شخصية النبي، طالما هو لا يبادر، ولا يقوم بعمل؟ حينها «فمحمّد على هذه الحال يختفي خلف هذا العدد الهائل من الكتابات ولا يبدو منه غير ما ينطق به القرآن» (ص63). وهذا ما يراه الكاتب مجافياً لدور محمد: «محمّد ليس مرسلاً فقط. قبل الدعوة وإبّانها وبعدها، كان بشريّاً. ميزه الوحي الاستثنائي، وقوة إرادته نموذج، وصبره فوق العادة. رسوليّته هبة خاصّة تتّفق مع بشريّته كرجل فضيلة ومناقب تفوق العادي. هذا الرجل الاستثنائيّ كان بشريّاً جدّاً وصاحب معاناة وتجربة ورسالة فوق طاقة البشر العاديين» (ص133). لقد كرّس الكاتب فصلاً كاملاً عن «الصورة البشرية لمحمد»، وفي هذا الخضم يستند إلى النص القرآني. إذ كتب: «في سورة «الأنبياء»، حسم لمسألة بشريّة محمد: وما أرسلنا قبلك إلّا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» (ص134)، ممّا يفتح هذا الحسم جدليّة البعد «التكويني» في نبوّة محمد عند فئة تذهب إلى وجود محمد قبل الخلق.
الفصل الأخير مخصص لقضايا تشكّل بؤراً خلافيّة في المؤسسة الدينية


يقدّم الصايغ رؤية مفكر غربي في هذا المضمار البشري، غولدزيهر الذي وجد من خلال التوثيق التاريخي أنّ محمداً كان يتّصف بالصفات البشريّة في مكامن القوّة وعوارض الضعف (ص134) وفي آية أخرى: «قل إنّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ» (ص139) في هذه الآية، تأكيد على الوحي والاتّصال، غير أنّ الكاتب استمرّ في ربط المسارات في حياة محمد تبعاً للظروف، والتحوّلات، والهجرات. «في يثرب أعيد تأسيس النبوّة لنفسها بوصفها قيادة دينيّة وقيادة سياسيّة معاً» (ص151)، في إشارة إلى تبدّلات الخطاب المحمديّ، فهو سياسي، يتعاطى بالسياسة تبعاً للمعطى، وهو الذي يصنع الحدث، ويسبق الوحي، وهذا غير مألوف في الفكر الديني، على اعتبار أنّ الوحي هو الذي يحرّك، ويقود، ويعصم عن الخطأ. ومن المثبت يقيناً أنّ ما يحدثه محمد بذاته يسبق ما يجيء وحياً، إمّا تأييداً له أو تنبيهاً أو تصويباً أو تحذيراً. ويمكن تفسير «الآيات الشيطانيّة» بأنّها سابقة على تدخّل الله (ص 136).
في سياق فصول الكتاب، التي وصلت إلى 14، يفصّل الصايغ حياة محمد بأدقّ التفاصيل، إلى أن يتناول في الفصل الأخير قضايا تشكّل بؤراً خلافيّة في المؤسّسة الدينيّة، وعند الفرق الكلاميّة، والمذهبيّة، بدأت إرهاصاتها المؤسّسة للفتنة، وللسلطة الدمويّة عبر المسار التاريخي للإسلام، منذ أن دخل «محمد فراش الموت» (ص343) حيث لم يستند الصايغ إلى روايات اللحظات الأخيرة لمحمد، وما له علاقة بالوصيّة، وبدء صراع الخلافة، حتى أصبحت «السلطة... وخلو النصّ والحديث» (ص 350)، إيذاناً برحلة طويلة مع الألم، والدّم، والتقهقر، وغياب إسلام محمد الذي جهد لترسيخ دعائمه، حيث الأولويّة باتت للسياسي على حساب الديني، ممّا أعاد الحياة إلى سيرتها الأولى: «تتضّح أولويّة الانتماء السياسي والعشائري على الديني» (ص355)، وبات النزاع «بين مجموعات متراصّة قبليّاً» (ص357)، ومع مرور الزمن، باتت «الجماعة الإسلاميّة جماعات. وحدة الأمّة أفضت بسرعة إلى انقسام، أين منه انقسام السقيفة بين الأنصار والمهاجرين» (ص363). لقد انتهى الحلم بعد وفاة محمد حيث «فوز المدنّس على المقدّس» (ص370)، وتحوّل الصراع كما عبّر جورج طرابيشي: «فقد سفكت دماء كثيرة وهذا، في سياق الصراع على السياسة لا على الدين، أو على الإمامة بالمعنى السياسي للكلمة، لا على الخلافة بالمعنى الديني» (ص372).
لقد دأب نصري الصايغ على تأكيد القراءة التاريخيّة العلميّة في كتابه «محمد ـــ السيرة السياسيّة»، وحرص على إبراز التحوّلات في حياة محمد، بين المدينة ومكّة، والتأكيد على أنّ «هذا الكتاب في السياسة وليس كتاباً في الدين». لكن هل يمكن الفصل بين السياسة والدين في الإسلام المحمدي؟ هذا سؤال مفتوح عند كلّ بحث علمي يتناول الإسلام، وحياة النّبي، والمسيرة التاريخيّة ليومنا هذا.
يبقى كتاب «محمد» محاولة فكريّة شيّقة، لأنّه تناول السيرة محايداً، ومن مقاربة لا تشكّل عنده غضاضة وهو العلماني بامتياز، أن يتحدّث مسيحي بهذا العمق عن شخصيّة محمد. أكثر من ذلك، قال الصايغ بعد إنجاز الكتاب: «لقد أحببت محمداً».