أعتقد أنّ الحراك الواقع في الجزائر خلال الأسابيع الفائتة ثورة حقيقية، أطلقتُ عليها توصيف «الابتسامة»، لما أبانت عنه من سلمية وتفجير لسلوكيات راقية وغير مسبوقة لدى الجزائريين. فلطالما كانت السلطة تروّج للهمجية وتخويف الناس من الانزلاق إلى العنف، وتذكّرهم بالعشرية السوداء وسيناريوات الفلتان الأمني في بعض دول الجوار والحروب الأهلية في بعض البلدان العربية جراء سقوط أنظمة الحكم فيها.في منتصف شهر فبراير، انتفض سكان مدينة «خراطة» التاريخية في مسيرة شعبية ضخمة ضدّ دعوات أحزاب الموالاة الرئيس المريض إلى الترشّح لعهدة خامسة، وكانت أولى قطرات الغيث للمسيرات التي أعقبتها، فانتشرت أفقياً باتساعها إلى مختلف شرائح المجتمع وفئاته، وعمودياً بارتفاع سقف المطالب من يوم إلى آخر. وكنتُ قد عبّرت عن هذا في جميع مداخلاتي عبر فضائيات عربية وغربية، لاقتناعي بأنّ الجزائريات والجزائريين قد استعادوا الثقة بأنفسهم، بعد سنوات من القمع والتخويف، وأثبتوا بالتزامهم الحراك وسلميته وحتى إبداعيته في صياغة الشعارات وأجواء الاحتفال في مسيراتهم الحاشدة، أنّهم قد رجّحوا الكفة لصالحهم، ولم يعودوا يعتبرون ما يجري على أرض الواقع مطالب سياسية بقدر ما صارت المسألة قضية تقرير مصير.
لم تنتبه السلطة في بداية الأمر إلى أنّ الشعب الجزائري لن يتراجع هذه المرّة عن مطلبه الأساس بتغيير النظام القائم وطرد كلّ رموزه وزبائنيته من المشهد والحياة العامة، وقد استنفدت كلّ حيلها ومحاولاتها وأد شرارة الوعي المتزايد للشعب، وعزمه على فرض منطقه وتغيير قواعد اللعبة؛ فغيّر الخوف موقعه وتعدّدت أخطاء السلطة وتنازلاتها مقابل ارتفاع في منسوب المطالب الشعبية، جعل الجزائريات والجزائريين يلتفون حول قضيتهم ويحرصون عليها من أي انحرافات أو اختراقات. وقد لاحظتُ شخصياً تحولات كثيرة في سلوكيات الناس، فمن عنيفين إلى وديعين في غاية السلمية. قلّت الجرائم والاعتداءات والسرقات بشكل محسوس، بحسب إحصاءات مصالح الأمن، كما لم تعد تسجّل محاولات هجرة غير شرعية (حرقة) في بواخر الموت؛ كأنّما اكتشف المواطنون أنّ خلاصهم صار بأيديهم، وأنّ السلطة هي مصدر بؤسهم ومشاكلهم وانحراف أبنائهم.
تحضرني هنا بعض شواهد هذا الحراك المتراكمة عبر سنوات حكم نظام بوتفليقة. في 2003، أصدر الصحافي القدير محمد بن شيكو مدير يومية «لوماتان» الناطقة باللغة الفرنسية كتاباً عنونه «بوتفليقة... البهتان»، ودفع الثمن غالياً بوقف صدور يوميته، والزجّ به في السجن لمدّة عامين. وفي 2008، وعشية التعديل الدستوري بما يسمح بفتح العهدات الرئاسية المقيّدة باثنتين، صاغ الكاتبان عبد العزيز بوباكير ومحمد هناد رسالة تاريخية نشرت في «الخبر الأسبوعي»، ينصحان فيها بوتفليقة بالعدول عن مشروع العهدة الثالثة (2009) واحترام مكسب دستوريّ يضمن التداول على السلطة، وتفادي النهايات المأساوية المعرّض لها كلّ ديكتاتور مستبدّ بالسلطة. مع اندلاع ما يسمى الربيع العربيّ في 2011، فبركت سلطة بوتفليقة أحداث عنف لامتصاص غضب شعبيّ بدأت وقتها تظهر ملامحه، فحوّلته من مطالب سياسية إلى احتجاجات على غلاء أسعار المواد الغذائية وسوء توزيع السكنات الاجتماعية، مكّنت بوتفليقة الذي أحاط نفسه بالفاسدين من رجال المال والأعمال والرديئين من الساسة والوافدين إليها من باب حزيبات طفيلية صنعت للغرض والتمييع الشامل للحياة السياسية، مكّنته ممّا سمّي وقتها «العبور بالقوة» إلى عهدة رابعة (2014) وهو على كرسيّ متحرّك في وضعية صحية لا تسمح له بممارسة وظيفته.
ولدت يومها حركة «بركات» المناهضة لهذا المشروع، والتحقت بها مجموعة من الأطباء والصحافيين والناشطين في مجال حقوق الإنسان، تمّ تعنيفها وجرّها إلى مراكز الشرطة، لكنها نجحت في تحرير الكثير من النخب من الخوف والتردّد، كما جعلت فئات أخرى من ضحايا نظام بوتفليقة تخرج في مسيرات عارمة للمطالبة بحقوقها (متقاعدو الحرس البلدي والجيش، والشرطة، والأطباء..) تمّ قمع حراكها باستخدام الذراع الأمنية لهذا النظام، وعزلها عن التضامن الشعبي عن مطالبها التي هي مطالب الشعب برمّته.
لا ينبغي أن ننسى في هذا السياق الحراك المرافق على مدرجات ملاعب كرة القدم منذ 2014، وحراك مواطنين موهوبين من طينة المواطن «الموهوب مايدي» الذي كان يطرح بطريقته التلقائية مشكلات عموم المواطنين المغبونين، وما كان يصنعه فنانو الراي والراب والملاهي والنقابات المستقلة والمناضلون الأحرار وغيرهم... كلّ هذا أدّى إلى تفتيت النظام على نار هادئة، وعرّى أساليبه البالية في تسيير الشأن العام وفي تخدير الشعب بقضايا هامشية لا علاقة لها بمشكلات الجزائريين والجزائريات من أجل العيش في كنف الكرامة والحرية والعدل والحقوق.

* شاعر وإعلامي جزائري ـــ من مؤلفاته: «أنا لست بخير» و«ميت على قيد الفيسبوك»