يثابر الكاتب العراقي ضياء جبيلي على كتابة القصص، إلى جانب الرواية. آخر مجموعاته «لا طواحين هواء في البصرة» (دار سطور)، فازت أخيراً بـ «جائزة الملتقى للقصة القصيرة» التي تمنحها سنوياً الجامعة الأميركية في الكويت بالتعاون مع «الملتقى الثقافي». يقدم لنا جبيلي قصصاً غزيرة تجاوزت السبعين، وضعها في فصول عدة حسب مواضيعها، يغلب عليها القصر إذ نادراً ما تزيد إحداها عن الصفحات الثلاث فيما أتى بعضها قصيراً جداً في نصف صفحة، تركزت فيه الجرعة الجمالية في سطور قليلة.منذ البداية، يُحيلنا عنوان المجموعة، الذي لم تحمله أي من قصصها، بالإضافة إلى الاقتباس في مقدمتها (لا توجد طواحين هواء في البصرة/ أين أذهب بكل هذه الأوهام؟/ أقاتل من؟)، مباشرة إلى رواية ثربانتس. إنها قصص من العراق، حيث لا يمكن لابن الرافدين أن يكون «دون كيخوته»، لا يسعه أن يهرب من ماضيه القريب ومن حاضره ومن قلق مستقبله المبهم. هناك لا مجال لمقارعة الأوهام، لا وجود سوى للحقائق المفجعة، ولا مجال للشرود بعيداً عن الواقع الحزين. دوي انفجار السيارة المفخخة إن لم يَطِر بالساهي إلى عالم آخر، فهو يعيده إلى واقعه الأليم. كذلك خلو الثياب في موضع الأطراف المبتورة، والنظر إلى الوجه المشوه في المرآة، وربُّ العائلة الذي ذاب كالملح على الجبهات أو في معتقلات النظام المنهار.

تستهل «حروب» فصول المجموعة، ونجد آثارها التي طالت كل نواحي الحياة ووسمت تاريخ العراق الحديث في الفصول اللاحقة: من الحروب الداخلية بين البعثيين والشيوعيين، إلى الحرب العراقية الإيرانية، فحرب الخليج، وصولاً إلى الغزو الأميركي. تتسلل إلى الفصل المعنون «أمهات» لتصيب جنديات البيوت المقاتلات بصبر، اللواتي لا تنتهي الحرب بالنسبة لهن أبداً. هنَّ المنتظرات العودة التي لن تحصل لأبنائهن، جالسات أمام صور طفولتهم، وسيلتُهن الوحيدة المتبقية لرؤيتهم.
في فصل «أطفال»، نقف أمام بساطة هؤلاء في التعامل مع الأحداث الكبرى، السياسية والعسكرية، التي تزلزل البلد المأزوم والمنطقة برمّتها، وتفسيرهم النابع من فهمهم الخاص لها، والتي أصابت بعضهم بعاهات دائمة، جسدية ونفسية. ليلى ذات السنوات الأربع هي التي أوقفت القصف الأميركي بطائرات الشبح الرهيبة، لأنها استعاضت عن إطفاء الأضواء عند سماع هدير الطائرة بإيقاد شمعة لأن «الأشباح تخاف من النور»، فيما تنتظر سوزان بفارغ الصبر وصول رئيس جزر القمر إلى بغداد لحضور مؤتمر القمة العربية، أملاً منها في أن يحمل معه شيئاً من ضوء القمر القادم منه ليبدد عن المدينة ظلمة التقنين الكهربائي.
نعيش النهايات المأساويّة في فصلي «حُبّ» و«نساء»، فبلد الحروب والأشلاء لا يجيد أن يصل بالحب إلى نهاياته السعيدة، وتكون النساء الحلقة الأضعف دائماً، فهنّ يتعرضن للخيانة، وللقتل مرة بدعوى الشرف، ومرة أخرى بدافع الشهوة بعد الاغتصاب، وأيضاً للهجر من عشاقهن اللعوبين بعد أن يحصلن منهن على ما يبتغين، ويتركهن فرائس اليأس والحسرة، يذبن في دموعهنّ.
فصول المجموعة تغطي تاريخ العراق الحديث بأحداثه الدامية


ويستمر «شعراء» ضياء جبيلي في أداء دورهم الرومانسي في حياة العشاق حتى بعد موتهم، من خلال قصائدهم وحضورهم الرمزي، في قصص يغلب عليها القصر واللغة المقتصدة.
يستخدم الكاتب بعض الشخصيات الشهيرة، الحقيقية والخيالية، كأبطال في قصصه من خلال إعادة صياغته لأحداث حياتهم، كقصة انتحار فيرجينيا وولف التي تفشل هذه المرة، وتبادل كل من فلوبير وتولستوي لبطلتيهما المنتحرتين، إيما بوفاري وآنا كارنينا، ما يغير مصير إحداهما، بالإضافة إلى الأرق الغريب والمتزامن لكل من جميلة بوحيرد وبريجيت باردو.
والبقية من قصصه المتنوعة التي لم تحوها الفصول الستة الأولى، وضعها الكاتب في فصل أخير حوى قصصاً «متفرقة»، في محاولته الإحاطة بالتاريخ الحديث لبلد الأغاني الحزينة والحضارات المنهوبة من المتاحف، وقد أفقدت غزارة الأحداث التي احتوتها القصص فرادتها، ما دام الموت بتنوع طرقه صار عادياً ويومياً ومتجولاً في الشوارع المزدحمة.