وردت الأخبار عن الجدل الإسلامي اليهودي حول جبريل في سياق تفسير الآيتين: «من كان عدواً لجبريل، فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين. من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال، فإن الله عدو للكافرين» (البقرة: 97-98). والكل متفق على أن هاتين الآيتين نزلتا في يهود يثرب وفي جدالهم مع الإسلام حول الملاك جبريل. لكن الخلاف يدور حول ما إذا كان الجدل قد جرى بين اليهود والنبي مباشرة، أم بينهم وبين بعض أصحابه، وعلى الأخص عمر بن الخطاب: «قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً [على] أنَّ هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أنَّ جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك» (تفسير مقاتل).
وسوف نأخذ خبر هذا الجدل من مصدرين: واحد يظهره كجدل مباشر مع الرسول، وآخر كجدل مع عمر: «قال ابن عباس: إن حبراً من أحبار اليهود من فدك يقال له عبد الله بن صوريا حاجّ النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن أشياء، فلمّا اتجهت الحجة عليه قال: أي ملك يأتيك من السماء؟ قال: جبريل، ولم يبعث الله نبياً إلا وهو وليه. قال: ذاك عدونا من الملائكة، ولو كان ميكائيل لآمنا بك، إن جبريل نزل بالعذاب والقتال والشدة» (الواحدي، أسباب نزول القرآن).

«البشارة» لغودينيزو فيراري (قبل 1511)

هنا يوضح بن صوريا أن جذر الخلاف بين اليهود والمسلمين يتركز في نقطة مركزية: الملاك الذي جاء بالوحي. فاليهود يربطون وحيهم الديني بميكائيل، فيما يربط المسلمون وحيهم بجبريل، بحيث يمكن القول إن نبوة المسلمين جبريلية، ونبوة اليهود ميكائيلية. أما عند ابن شبة فالخبر هكذا: «قالوا: ومرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا ابن الخطاب ذاك صاحبكم فالحق به. قال: فقلت لهم عند ذلك: نشدتكم بالله الذي لا إله إلا هو، وما استرعاكم من حقه، وما استودعكم من كتابه، هل تعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا. فقال لهم عالمهم وكبيرهم: إنه قد غلظ عليكم فأجيبوه. قالوا: فأنت عالمنا وكبيرنا، فأجبه أنت. قال: أما إذ نشدتنا بما نشدتنا فإنا نعلم أنه رسول الله. قلت: ويحكم إذاً هلكتم. قالوا: إنا لم نهلك. قلت: كيف ذلك، وأنتم تعلمون أنه رسول الله ولا تتبعونه ولا تصدقونه؟ قالوا: إن لنا عدوّاً من الملائكة وسلماً من الملائكة، وإنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة. قلت: ومن عدوكم ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل وسلمنا ميكائيل. ثم قالوا: إن جبرائيل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا. وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة والتخفيف ونحو هذا» (ابن شبة، تاريخ المدينة).
إذن، وبناء على هذه الرواية أيضاً، يربط اليهود وحيهم الديني بميكائيل: «لو كان ميكائيل لآمنا بك»، في حين أنهم يربطون الإسلام ووحيه بجبريل. وما تضيفه هذه الرواية هو تعليل اليهود لعدائهم لجبريل، أنه مرتبط بالطابع الحربي لجبريل: «جبرائيل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا. وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة والتخفيف ونحو هذا». وهو أمر يبدو أنه يتفق مع ما يعتقده المسلمون بخصوص جبريل على الأقل. فليس هناك في الجدال ما يشير إلى رفض المسلمين لفكرة الطابع الحربي لجبريل.
وأعتقد أن ربط الإسلام بالسيف والعنف في المصادر المسيحية الغربية منطلق من هنا، أي منطلق من طبيعة جبريل الملاك الحربية أساساً. أي إنه لا يختص جوهرياً بممارسات المسلمين في الفتوح. ثمة حديث نبوي، مرفوع إلى ابن عباس، يضعه كثيرون ضمن سلسلة الأحاديث الضعيفة، ربما يؤكد الطابع الحربي لبعثة الرسول، النابع من طابع الملاك ذاته: «إن الله تعالى بعثني ملحمة ومرحمة، ولم يبعثني تاجراً ولا زارعاً وإن شرار الأمة يوم القيامة التجار والزارعون إلا من شح على دينه» (المتقي الهندي، كنز العمال). وثمة صيغة أخرى للحديث أخف وطأة: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ بعثني بالهدى ودين الحق، ولم يجعلني زراعاً ولا تاجراً ولا سخاباً بالأسواق، وجعل رزقي في رمحي» (المتقي الهندي، كنز العمال).
وهكذا، فالله بعث رسوله (ملحمة)، كما أنه «جعل رزقه في رأس رمحه». ومن الواضح أنَّ فهم هذا الحديث بالمعنى الواقعي يجعله حديثاً صعب القبول. فلا يمكن للرسول أن يلعن التجار والزارعين باعتبارهم أشرار الأمة، لأنه هو بذاته تاجر واقعياً. بالتالي، يجب أخذ الحديث بالمعنى الديني كي يكون مفهوماً ومقبولاً. فهو يضرب على الوتر ذاته الذي ضرب عليه اليهود بشأن الطابع الحربي لجبريل. فالرسول يتبدى مثل ملاكه محارباً وليس مزارعاً ــ تاجراً. وهذا يعني أنَّ الحديث ينقل التقليد الديني القديم عن الخلاف بين الصياد المحارب والمزارع المسالم، كما هو الحال بين قابيل وهابيل. وحتى لو كان الحديث موضوعاً، فإنه ينقل تقليداً قديماً، أي إن ما فيه ليس مخترعاً. وهذا يعني في غالب الظن أن ميكائيل مرتبط بالزراعة لا بالرعي والصيد والقنص.
وإذا كان جبريل الحربي ليس ملاك يهود يثرب، فإن هذا يعني أن ديانة هؤلاء ليست إبراهيمية من حيث المبدأ، بل هي نقيضها. أي إن التقليد الإبراهيمي الإسماعيلي ثانوي في الديانة اليهودية. وهو ما ينقض أسطورة النفاق والكذب التطبيعية حول أبناء إبراهيم (اليهود، المسيحيون، المسلمون). ليس اليهود في الأصل إبراهيميون.
ميكال (ميكائيل) معبود قديم موجود في فلسطين من القرن الثالث عشر قبل الميلاد


وفي أي حال، فجبريل اسم مركب. فهو «جبر إيل». وهذا ليس من اختراعنا، فالمصادر العربية ذاتها تقول به: «قيل [عن جبريل وميكائيل] هما جبر وميكا، أضيفا إلى إيل، وهو اسم الله تعالى» (ابن الأثير المحدث). وما يقوله ابن الأثير سليم. لكن معنى الاسمين في الأصل الجاهلي هو: الإله جبر، أو جابر، والإله ميكا. أي إننا أمام إلهين متقابلين تحولاً في ما بعد إلى ملاكين.
أما ميكال (ميكائيل) فمعبود قديم جداً. وهو موجود في فلسطين من القرن القرن الثالث عشر قبل الميلاد على أقل تقدير. فقد عثر في بئر السبع على مسلة يتعبد فيها مسؤول مصري في المدينة لهذا الإله المحلي الفينيقي. أكثر من ذلك، فإن هذا الإله ربما كان موجوداً من القرن العشرين قبل الميلاد. فالاسم (مكو) موجود في قصة سنوحي المصرية. فقد كان شيخ القبيلة التي التجأ إليها المغامر المصري الذي يدعى (مكو). وقد رأينا أعلاه أن الاسم (ميكائيل) تركيب من: «ميكا» و«إيل» أي الإله ميكا. وأغلب الظن أنّ الإله ميكا على علاقة بطائر المكاء العربي المكي، المرتبط بصنم «مجاوز الريح» الذي كان منصوباً على الصفا قرب مكة. وقد ذكر صوت هذا الطائر في القرآن: «وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية» (الأنفال 35). فالمُكاء هنا هو صوت المُكاء الطائر. وقد كان مشركو مكة، والحمس منهم في ما يبدو، يقلدون صوته من على الصفا.
إذا صح هذا، فالحمس ويهود يثرب معاً كانا على علاقة بالإله المكاء، (ميكا- إيل، مكا- ل) بغض النظر عن الخلاف حول الأصنام، وهذه نقطة دينية حاسمة، كانت قاعدة تحالف هذين الطرفين في ما بعد. وهذه القاعدة هي التي جعلت الخمر حلالاً في مذهب الحمس ومذهب اليهود. الفارق بالطبع هو أن ميكائيل أنزل إلى رتبة ملاك، في حين إنه إله عند حمس مكة. على كل حال، فإن هذا يعني أن جبريل نقطة اتفاق جوهري بين الإسلام والمسيحية. فوحيهما معاً جبريلي الطابع، إذ نعرف أن جبريل كان هو المبشر بالمسيح: «وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة. إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف. واسمها العذراء مريم. فدخل إليها الملاك وقال: سلام لك أيتها المنعم عليها الرب معك. مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه، وفكرت: ما عسى أن تكون هذه التحية. فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم، لأنك قد وجدت نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً، وابن العلي يدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه» (لوقا 1؛ 26- 32)

* شاعر فلسطيني