لم يغادر البلدة رغم الإجحاف والأذى الذي تعرض له في مقتبل عمره. هناك أسباب متعددة لذلك:ـ أمه، كانت تريده جوارها لذلك استخدمت أساليب دنيئة، ومنحطة لتثبته في المكان، «إحنا ملناش نصيب في خير بره، هو كده كل الناس تروح وترجع بالخير واحنا نرجع بالقهر والمرارة والمرض والعجز، والنهاية، كان طبيعي إنك تسافر لكن مشيت وراء الصيع وضيعت من عمرك ثلاث سنوات وبقيت رد سجون، ومين يجوز بنته لواحد زيك، لازم الأول تسعى للعمل وبعد كده تتجوز وتروح مع مراتك مطرح ما تروح».
ـ أسباب ذاتية، حيث فقد الرغبة في المغامرة، والجسارة، وتحول إلى شخص يائس منعزلٍ.
ـ الخوف من العودة إلى السجن مرة ثانية، أثناء محاولة الخروج سواء عن طريق رسمي، أو تسلل.
تخرج من كلية الآداب وانضم إلى خلية شيوعية، وتم اعتقاله وحُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات. سنوات السجن لم تؤثر فيه، أو تكسره ولكن الذي ظلّ بقعة سوداء داخله كان ليلة القبض عليه وسحله من قِبل مخبر من أهالي البلدة، حيث نكّل به في الشارع أمام الجيران ومزّق ملابسه وجره من شعره. كان يرى الجيران يطلون صامتين من النوافذ والبلكونات، أو يسيرون وراءه دون أن يتدخل أحد. وعندما خرج، قرّر ترك العمل السياسي وهجر الشعر، فهجره الشعر، ثم بعد توسط كثير من الأقطاب اليساريين الذين يقيمون علاقات واسعة مع الدولة، التحق بالعمل كمصحح لغوي في جريدة قومية. ومع الزمن وفّق في الزواج بممرضة، وأنجبت منه ولدين وبنتاً واستسلم لروتين الحياة. يذهب إلى الجريدة ويعود مواصلات للبيت آخر النهار. وعندما تيسر الحال قليلاً، اشترى سيارة بقرض من البنك يُستقطع من مرتبه. السيارة كانت بالنسبة له السعادة القصوى، فقد ارتاح من الجحيم اليومي في وسائل المواصلات، لم يكن له لذة سوى السيجارة والجلوس في المقهى كل يوم بعد العشاء، ينظر إلى المارة ويبتسم أو يتفرج على لاعبي الدومينو من الرواد ولكن لا يشارك.

سِينْدِي مِيِّي: «صرخة الصمت... في الظل» (زيت على قماش ــ 2015)

ترك لحيته تنمو بعد خروجه من المعتقل، وقد انحسر شعر رأسه، ضئيلاً ومهذباً فكان محبوباً من الجميع. لم يتنكر للفترة التي قضاها شيوعياً ولم يعتبرها مرحلة ومرت. في الذهاب والعودة من العمل في القاهرة للبلدة، كان يمر بمنطقة صحراوية، لا تزيد عن ربع الساعة. في العودة ينحرف بالسيارة على الرصيف ويقف مستنداً إلى السيارة ناظراً إلى الصحراء. في كل مرة يشعر أنه يعود إلى مسكن طيب وفي لحظة ما، يستغرق في التأمل يسقط في النوم، يرى نفسه يخرج من خيمة، أو يطارد ذئباً في الصحراء، أو يُطَارَدُ من ذئاب جبلية مفترسة، أو يشوي حملاً في الصحراء. لم يكن هناك أحد، لا قبيلة أو أفراد، لا نساء ولا رجال وحده في الصحارى، مع الحيوانات الأليفة أو المفترسة، لا فرق. صراعه معها منفرداً، متعته معها منفردة، شهواته ورغباته يحققها منفرداً. يشعر بأنه من هناك وأنه عاش أزماناً وكله داخل الصحراء، لم يعش بالمطلق في حديقة، أو نهر، أو قصر. هناك دائماً فرس يتبعه، أو يتبع فرساً، كانت الحياة مع الضواري رحمة، ثم فجأة ينبه «كلاكس»، أو صوت يتصور أنه في حاجة لمساعدة، فيعود ليركب السيارة ويعود للبلدة يمارس روتيناً يومياً كانت تلك اللحيظات، إشراقاً روحياً بهياً يجعله يستمر في الحياة.
■ ■ ■

بعد عشرين عاماً، وجد اتصالاً تليفونياً من صديقه محمود أمين الذي قام بتجنيده، وقد كان يتميز بثقافة رفيعة، وله وجهة نظر راديكالية تجاه الرأسمالية والنظم العسكرية التي تلتهم مقدرات الأمة وتقف حجر عثرة أمام انطلاق الثورة المصرية بما تمتلكه من إرث مادي ضخم ورعاية من الدول الغربية الاستعمارية، وكان الأكثر جسارة في مواجهة زبانية السلطة الباطشة. وعندما خرجنا من المعتقل، اختفى حتى ظننت أنه مات وبطبيعته الجديدة لم يكن يسأل عن أحد، أو يزور أو يزار، كان فارغاً ولديه خزي بسبب هشاشته وتخليه عن حلمه وعدم التحقق في الحياة.
«وصلني شيء، أن العيب ليس في الخارج ولكن داخلي، داخلي أنا سواء كان الداخل تكويناً فطرياً، أو مكتسباً ولكن الحقيقة أني خاسر بشكلٍ ما بمعنى: طلبت السلطة منّي إغلاق فمي وعدم الكلام في السياسة ولكن هل طلبت منّي التوقف عن كتابة الشعر؟ هل طلبت منّي أن أكفّ عن القراءة في الفن والثقافة، أم أن العقم متجذّر فيّ؟ الحياة لغز فارغ وبلا معنى وكل الحكاية أننا سقطنا في منطقة «سين» وعلينا أن نسير إلى منطقة «صاد»، ثم نسقط مرة ثانية لا نعرف إلى أين؟ وسواء بذلت جهوداً خارقة أو جلست على كرسي وتأملت العالم والبشر والعلاقات الإنسانية شديدة التعقيد ثم تبتسم وتعود للتأمل مرة ثانية».
• حبيب قلبي فينك؟
• موجود من معايا؟
• محمود أمين يا بني نسيت الأب الروحي لك؟
• إزيك يا أستاذنا كيف حالك بخير؟
• عايز أشوفك..
• تحت أمرك نتقابل فين؟
اتفقا على الالتقاء في وسط البلد وعندما تقابلا، كالعادة تبادلا الأحضان والذكريات. طلب منه محمود أن يجدا مكاناً بعيداً عن موطن المثقفين الطفوليين الأوغاد. ولأنه لم يكن خبيراً بمقاهي القاهرة، ولم يعد من رواد المقاهي، ظلا يدوران في الشوارع الجانبية، حتى وجدا مقهى معزولاً في ممر ضيق في عمارة الفنان أنور وجدي. وقد سعد محمود جداً عندما علم أنه هجر الشعر تماماً لا يعرف لماذا، وحكى له عن حياته في السويد ونجاحه في تأسيس مركز لتأهيل ومساعدة الفئات المهمشة وضحايا التعذيب من الدكتاتوريين العرب الأوغاد. ثم كلمه عن روايته الأولى التي روى فيها تجربة السجن والتعذيب الإجرامي من المرضى النفسيين القتلة، وغضب من عدم متابعة أخباره رغم انتشارها في الصحف المصرية، وأنه جاء إلى مصر لحضور مؤتمر الرواية بدعوة من السيد جابر عصفور رئيس المجلس الأعلى للثقافة، وأن كتبه يُحتفى بها في كل أبواب وزارة الثقافة، وأنه لا يمر عام إلا ونشر، أو أعاد طبع كتاب في مصر، ثم انطفأ فجأة وقال: «أولاد الحرام حرموني من الحصول على جائزة بوكر، وأنا الأحق بها. روايتي ذروة العمل الروائي في العالم العربي بل تقارن بروايات الكبار في العالم». ومن كلامه عرف أنه داخل «جيتو» ضخم من المثقفين المغتربين، حيث يقوم بدور قوي من خلال تخليص مصالح مادية ورمزية، كان يراها الدفعة القوية التي ستكرسه كأهم كاتب للرواية في العالم العربي.
وفي نهاية اللقاء، اتفقا على أن يرسل له روايته الجديدة التي سيدفع بها إلى المطبعة من خلال دار... في بواكير العام الجديد لمراجعتها وإرسالها له من خلال البريد الإلكتروني. ثم أخرج مطواة وناولها له كهدية، انزعج انزعاجاً شديداً ورماها على الطاولة، فكانت تبرق على المباني. مع اهتزاز الطاولة، ظلّ يحدق مرة في صاحبه بدون تركيز ومرة في بريق المطواة، وكلما ركز أكثر في لمعة المطواة والشفرة الحادة القاطعة والسن الرفيع، صار مضطرباً وحائراً، هل يرفض المطواة وهو المسالم، الذي يعيش في الهامش، يعيش داخل الحائط وليس بجواره؟ ثم قال: «وماذا لو أخذتها وفي حاجز مروري تم تفتيش السيارة و«اتهفيت» ستة أشهر سجن على ما قسم». لا، لا، لا، وأزاح المطواة بيده، ثم سحبها وأخذ يغلق ويفتح فيها في رتابة وهو يبحلق في وجه صديقه دون أدنى تركيز، ثم قام صديقه والتقط علبة السجائر والولاعة والحقيبة. في تلك اللحظة سحب المطواة ووضعها في الحقيبة، وسارا بعد ذلك حيث أكلا في محل كشري، واشترى محمود علبة حلويات من العبد وناولها له، للأولاد، وفي النهاية أخذا بعضهما بالأحضان، وركب هو سيارته، وعاد إلى البلدة دون أن يتوقف بالسيارة في المكان المحبب. كان يفكر في المطواة، وتذكر صدفة وقعت للشاعرة الروسية مارينا إيفانوفنا تسفيتاييفا، حيث أهداها الشاعر الروسي الكبير حبلاً لتربط به حقيبتها، فاستعملته كوسيلة انتحار. إنها الصدفة البحتة فما دام السلاح حضر، وجب استخدامه. هلع عندما وصل إلى هذه الفكرة، ورماها ثم أوقف السيارة وعاد. حمل المطواة ونفضها من الرمل العالق به ودسها في جيبه، وكل آن يضع يده في جيبه ويتحسس المطواة. كان قلقاً في الفترة التالية، وعندما يعود من القاهرة ويقف في مواجهة الصحراء لا يشعر بأي شيء فقط القلق والتشوش، ثم يغادر مسرعاً. عندما ذهب إلى المقهى، وجد المخبر يجلس على إحدى الطاولات. وعندما رآه أخذ يضحك بفجاجة، «إزيك ياد يا شيوعي، إنت لسه كافر برضو؟». تصنّع الضحك وسلّم عليه في ود وجلس بجواره وطلب له شاياً، وتسامرا عن الحاضر والماضي. كان التدخين والمخدرات قد خرّبا صدره، وكل آن يظل يكح ويخرج بلغماً أزرق ثم يضعه في يديه ويرميه بعيداً في الشارع، وأحياناً يسقط على ملابسه. ثم قال وعلامات الندم على وجهه: «إحنا ظلمنا ناس كتير، لكن أنت، أنا ما مكنتش بضربك إلا لمصلحتك، أرجعك لعقلك الطايش اللي متصور إنه هيصلح الكون، الحياة اتبنت على كده، الكبير كبير، والصغير صغير، ورفعنا بعضكم درجات، واحد زيك كده، أهله ناس غلابة مش لاقيين اللضا ولا حيلتهم إلا الستر يجي عيل طائش زيك يبهدلهم». أخذ يتحدث وهو يغلي كأنه على موقد، هذا التحقير جعل كل الماضي يطفو على السطح. يسترجع كل تفصيل بهدوء حتى أنه لم يعد ينتبه لما يقول. ينظر إلى فمه فقط كأنه يرى فيلماً صامتاً، ثم قام وقال له: «حاسب على المشاريب» وتركه وهو يعكز على قدمه اليسرى قليلاً. دفع الحساب وعاد إلى البيت، أخرج المطواة من درج المكتب ووضعها في جيب البنطلون ونزل إلى الشارع. كان يعرف أنه بعد خروجه للمعاش، يذهب إلى الصيد في النهر بعد صلاة العشاء، هو وحده أحياناً، وأحياناً مع آخرين، تتبع أثره كظل، وعندما حانت الفرصة، حيث الليل والظلام وصمت النهر، وضع يده على كتفه وقال له: «بقالي عشرين سنة نفسي أنزل البحر، ولا مره جرؤت على النزول». انتبه إلى الصوت وعرف من يتحدث وراءه، فرمى السيجارة التي في يده بعدما دخل الدخان أنفه، فبدأ يكح وهو يلهث محاولاً التقاط أنفاسه.
- البحر قدامك أهو يا خوي، أعمل دكر مرة.
- أشرب شاي الأول.
- العدة موجودة.
- فين؟
- مش هتعرف مكانها، أقوم أجيبها.
وعندما قام وأصبح بمحاذاته جسمُه الضخم وهيئته المرعبة، أخرج المطواة وأخذ يغرسها في كرشه بسرعة طلقات مسدس كأنه كان يتدرب عليها.
- يا بن الحرام دا أنا كنت بحبك زي أخويا الصغير. وسقط على وجهه ميتاً.
أخذ يجرجر الجثة حتى دخل بها في عمق النهر وتركها تتحرك في بطء.

* الجيزة/ مصر