تحدثنا في المادة السابقة عن الخلاف الايديولوجي بشأن جبريل وميكائيل بين اليهود والمسلمين. أما الآن، فنعرض لمسألة خلافية أخرى تتعلق بالجمل. من الواضح أنَّ اليهودية على علاقة بالجمل. من أجل هذا، فاليهود لا يأكلون لحم هذا الحيوان: «ومنها: استباحة لحم الجمل، فإنه محرم عندهم، ومَن استباحه، فقد ارتكب محظوراً عظيماً عندهم» (القلقشندي، صبح الأعشى). وقد افترض ثيوفان Theophane في تاريخه أنَّ العلاقة بين اليهود والنبي محمد كانت طيبة، ثم تدهورت حين اكتشفوا أنَّ المسلمين يأكلون لحم الجمل: «عندما بدأ محمد دعوته، ظل اليهود معتقدين أنه المسيح فاتّبعه بعض القادة منهم تاركين ديانة موسى الذي كان يعرف الله. وقد كانوا عشرة رافقوه طيلة حياته، لكنهم حينما رأوه يحلل لحم الجمل، عرفوا أنه ليس هو الرجل الذي كانوا ينتظرون» (1).
إذن، فما يحدد إن كانت نبوة ما قريبة من اليهودية إنما هو الموقف من الجمل. طبعاً، وعلى عكس ما يعتقد ثيوفان، فلا بدَّ أن اليهود كانوا، منذ البدء، يعرفون أن المسلمين يأكلون لحم الجمل. أي أنه لم يكن اكتشافاً بالنسبة لهم. ومن هذه الزاوية، فخبر ثيوفان لا أهمية له. أهميته تكمن في تأكيد فرق أيديولوجي مهم بين المسلمين واليهود.
رسم لجمل داخل كنيسة «سان بوديليو دي بيرلانغا» في بلدة كلتوخار الإسبانية، يعود إلى النصف الأول من القرن الثاني عشر

وقد أوردت المصادر العربية نتفاً من الجدل الذي دار بين المسلمين واليهود في يثرب حول لحم الجمل مما يؤكد خبر ثيوفان. فقد جادل اليهود بأن إبراهيم لم يكن يأكل لحم الجمل، فرد المسلمون أنَّ هذا غير صحيح. فيعقوب هو من حرم أكل الجمل على نفسه لأنه كان يصيبه عرق النسأ، فحرم على نفسه أكل لحم الجمل. والحق أن ما قاله المسلمون هو الأصح. فيعقوب هو الذي على علاقة بالجمل لا إبراهيم. الشرعة الإبراهيمية على علاقة بالخيل والحمير لا الجمال.

اليهود والأرنب
لكن هناك من اعتقد أنَّ اليهود على علاقة بالحمار. فقد ورد عند بلوتارخ أنَّ اليهود يمتنعون عن أكل الأرنب لأنَّه يشبه بأذنيه الحمار الذي يعبدونه. والحق أن بني إسرائيل، وليس اليهود، هم من كانوا يقدسون الحمار، والحمار الوحشي خاصة: «قد ابتلع إسرائيل. الآن صاروا بين الأمم كإناء لا مسرّة فيه. لأنهم صعدوا إلى أشور مثل حمار وحشي معتزل بنفسه» (هوشع 8: 8-9). إسرائيل هنا تصعد كحمار وحشي. وهذا ليس تشبيهاً أدبياً، بل حقيقة ميثولوجية. فإسرائيل، الإله إسرائيل، يتجسد في حمار. وأغلب الاستعارات القديمة كانت في الأصل حقائق ميثولوجية. بل يمكن القول إنّ الاستعارات القديمة أساطير متحجرة. ولأن إله بني إسرائيل الموسويين يقدسون الحمار، لذا فليس علينا أن نعجب إن قاد حمار وحشي موسى وجمعه في التيه حتى أوصلهم إلى الماء. كل القصص التوراتية التي توحي بتقديس للحمار تتبع تقليد إسرائيل، وما ينبثق عنه من إبراهيمية وإسماعيلية، لا اليهودية.
أما افتراض أن اليهود يمتنعون عن أكل الأرنب لأنه يشبه الحمار، فافتراض واهم. على العكس، فهم يحرمون أكل لحم الأرنب لعلاقته بالجمل لا بالحمار. يتضح هذا من التحريمات التي أوردها سفر اللاويين:
«وكلم الرب موسى وهرون قائلاً لهما. كلّما بني إسرائيل قائلين هذه هي الحيوانات التي تأكلونها من جميع البهائم التي على الأرض. كل ما شق ظلفاً وقسمه ظلفين ويجتر من البهائم فإياه تأكلون. إلا هذه، فلا تأكلوها مما يجتر ومما يشق الظلف الجمل لأنه يجتر لكنه لا يشق ظلفاً فهو نجس لكم. والوبر لأنه يجتر لكنه لا يشق ظلفاً، فهو نجس لكم. والأرنب لأنه يجتر لكنه لا يشق ظلفاً فهو نجس لكم. والخنزير لأنه يشق ظلفاً ويقسمه ظلفين، لكنه لا يجتر فهو نجس لكم. من لحمها لا تأكلوا وجثثها لا تلمسوا إنّها نجسة لكم» (لاويون 11: 1-8).
وهكذا، فالأرنب محرم مثل الجمل تماماً. وكذلك الوبر الذي يشبه الأرنب. وثلاثتها تتشابه في الشفة المشقوقة لا في الأذنين. بالتالي، شق الشفة هو الذي يجمع بين الجمل والأرنب، لا عدم شق الظلف. وفي الميثولوجيا العربية، يتماثل الجمل والوبر أيضاً كما يقول شطر بيت الشاعر: «والفيل والأعلم كالوبْرِ». فالفيل معروف، والأعلم: البعير، وبذلك يسمّى، لأنّه أبداً مشقوقُ الشَّفةِ العليا (الجاحظ، الحيوان).
كلّ حيوان نجس هو حيوان مقدس في الأصل كما يخبرنا جيمس فريز


وهذه الحيوانات لا تؤكل في الأساس لا لأنها نجسة، بل لأنها مقدسة. لكن مع الزمن بدا كأنّ الامتناع عن أكلها نابع من نجاستها. بهذا المعنى فكل حيوان نجس هو حيوان مقدس في الأصل كما يخبرنا جيمس فريز.
وعلى كل حال، فشق الشفة علامة الضحك والسرور. يقول المثل البدوي: «الجمل ضحك مره وحده في عمره، انشق شاربه». والحق أن هذا المثل من أمثال الأصول. أي الأمثال والقصص التي تبين الحادثة الأولية القديمة التي أوجدت شيئاً ما لأول مرة. وهنا يجري الحديث عن الحادثة الأولى التي أورثت الجمل شفته العليا المشقوقة. بالتالي، فالضحكة التي شقت شارب الجمل، أي شفته العليا، هي الضحكة الأولى للجمل، وليست الضحكة الوحيدة. بعدما انشقت شفته، ظل يضحك بلا توقف. فشق الشارب أو الشفة هو الضحك أو علامة الضحك. الجمل، ميثولوجيا، حيوان سعيد لا يتوقف عن القرقرة والكركرة. من أجل هذا، فالقرقرة في اللغة هي: الضحك وهي صوت الجمل في آن واحد. وقد بينّا هذا أثناء حديثنا عن الشخصية العربية الأسطورية «سعد القرقرة». وسعد هذا ذو طابع إلهي. وهو إله- جمل ضاحك.

داود الجمل
أكثر من هذا، يبدو أن «داود» كان إلهاً- جملاً. ويعتقد أن اسم «داود» من الجذر «ودد» بمعنى أحب. لكنني أعتقد أنه من جذر «دود» الذي هو عديل لجذر «ذود». العربي الذي على علاقة بالإبل: «الذَّوْدُ: للقطيع من الإِبل الثلاث إِلى التسع... وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: ليس فيما دون خمس ذَوْدٍ من الإِبل صدقة» (لسان العرب). وإذا كان «داود» جملاً، فهذا يعني أنه شبيه سهيل اليماني الإله- النجم الذي يدعى «بالفحل» أي الجمل الذكر. كما يعني أن نجمته، نجمة داود، هي نجمة سهيل اليماني ذاتها.
والحق أنَّ بعض الخرافات البدوية العربية ما زالت تربط بين اليهود والجمل: «لدى بدو الجزيرة العربية أسطورة غريبة عن أصل الجمل. فهم يرون أنَّ اليهود هم من امتلك الجمل في الماضي لا البدو. وتقول الأسطورة إنَّ اليهود كانوا يعيشون في جبال الحجاز، بينما عاش البدو في الصحارى. وقد ملك البدو الخيل وركبوها في غزواتهم، لكنهم تجنبوا الجبال خوف أن يفقدوا طريقهم في شعاب الجبال. ولسبب ما، فقد غزا البدو اليهود في الجبال... وحين وصلوا إلى سهل محاط الجبال، عثروا على خيام كثيرة لليهود. وأمام الخيام كان هناك حيوانات غريبة لم يروها من قبل. كانت هذه هي الجمال، التي يسميها البدو الإبل» (2).
وهذه الأسطورة صدى لحقيقة ارتباط اليهود الميثولوجي بالجمل.
إذن، فنبوة اليهود على علاقة بميكائيل والجمل، في حين أن نبوة المسلمين والمسيحيين مرتبطة بجبريل وبالحصان والحمار. فقد دخل المسيح القدس على ظهر حمار، كما جاء في إنجيل لوقا: «وأتيا به إلى يسوع، وطرحا ثيابهما على الجحش، وأركبا يسوع» (لوقا 19: 35). أما في إنجيل يوحنا فجاء: «وجد يسوع جحشاً فجلس عليه كما هو مكتوب» (يوحنا 12: 14). وجملة «كما هو مكتوب» تشير إلى ما جاء في سفر زكريا في العهد القديم: «قولوا لابنة صهيون: هو ذا ملكك يأتيك وديعاً، راكباً على أتان، وجحش ابن أتان» (زكريا 9: 9). أما الرسول، فقد وصل القدس على ظهر البراق. والبراق حسب الغالبية بين البغل والحصان. والبغل خلطة من الحصان والحمار.
بناء على هذا، يجب فهم آيات سفر أشعيا: «فرأى ركاباً أزواج فرسان. ركاب حمير. ركاب جمال». (أشعيا 21: 6-7). فهي تتحدث عن تعاقب طرازين من النبوات. فهناك نبوة ركاب الحمير مثل نبوة المسيح، وهناك نبوة ركاب الجمال. وقد افترضت النصوص الإسلامية أن ركاب الجمال إشارة إلى نبوة النبي محمد. وهذا غير صحيح. فالرسول مرتبط بالبراق.

المصادر:
(1) في: هشام جعيط، هوامش على كتاب «تاريخية الدعوة المحمدية في مكة»، الأوان، الثلاثاء 28 حزيران 2011).
(2) Jabbur, The Bedouins and the Desert,1995, Cited in: THE CAMEL ANCIENT SHIP OF THE DESERT And the Nabataeans, http://nabataea.net/camel.html
* شاعر فلسطيني