كتاب «أنا قناصة في معارك دفاعاً عن سفستبول وأوديسا» (عنوان النسخة الروسية) الذي صدر بالإنكليزية عن «غرينهيل بوكس» بعنوان آخر، اخترنا عرضه في ذكرى مرور يوم النصر على النازية والفاشية، أي يوم استسلام ألمانيا النازية رسمياً لقوات التحالف الواقع في التاسع من شهر أيار (مايو) 1945. إذ أنّ القيادة النازية كانت قد استسلمت للقوات الأميركية في نهاية شهر نيسان (أبريل) من العام نفسه، لكن موسكو احتجت على ذلك لأن الاتفاق بينها وبين واشنطن كان على أن الاستسلام يتم لقيادتي الطرفين العسكريين. اختيار هذا المؤلف المثير لهو اعتراف بالدور المهم الذي مارسه الاتحاد السوفييتي دفاعاً عنا حيث سقط له ضحايا كثر في معارك التصدي لاعتداءات العدو الصهيوني، ولا ننسى أيضاً دوره في الدفاع عن سوريا في وجه الإرهاب الناتوي والإرهاب الإسلمنجي-التكفيري.لا شك في أن تاريخ الحرب العالمية الثانية ما زال مثقلاً بأسرار كثيرة منها ما كشف أخيراً عن أن لندن وباريس كانتا تخططان لمهاجمة مراكز استخراج البترول في باكو التي كانت وقتها ضمن حدود الاتحاد السوفييتي، وكانت تمدّ ألمانيا بما تحتاج إليه من النفط وفق رأي سادة بريطانيا وفرنسا.


لقد فقد الاتحاد السوفييتي نحو عشرين مليون ضحية في الحرب وخسائر مادية لا حصر لها. على سبيل المثال، فقد نحو مليون جندي في معركة ستالينغراد وحدها، وكان مئات الآلاف من المدنيين سكان مدينة لينينغراد المحاصرة يقضون يومياً جوعاً أو بسبب الأمراض والأوبئة. لكن المدافعين عن الوطن كانوا على استعداد للتضحية بأرواحهم رجالاً ونساءً وإحداهن لودميلا بفلتشنكو، الجندية في سلاح القناصة التي نعرض مذكراتها هنا.
لقد خالفت لودميلا الأوامر العسكرية بكتابة يومياتها في الجبهة، لكن هذه المخالفة أنتجت مذكرات نادرة، بقلم قناصة امرأة، وأكثر من ذلك، فهي صاحبة الرقم القياسي حيث سجل لها 309 إصابات قاتلة رسمية، إضافة إلى نحو مئتي إصابة قاتلة إضافية غير رسمية، أي من دون شاهد غيرها، فحصلت على أعلى أوسمة الجيش الأحمر.
يقول الخبراء إن فترة حياة القناصة السوفييت على الجبهة قصيرة حيث لا تتجاوز الأسبوعين. كلما بقيت على قيد الحياة، زادت خبرتهم وبالتالي فرص النجاة من الموت. لكن القناصة المحاربين على الجبهة يتعرضون لحالات إرهاق من المعارك ومن التعرض لأقصى الشروط البدنية. هذا يؤدي إلى فقدان القناصة التركيز وعادة ما يكون أول خطأ يرتكبونه هو الخطأ الأخير.
امتلكت لودميلا الكفاءة الطبيعية وهي إحدى المواهب الطبيعية، عندما يكون لدى شخص ما المزيج الصحيح تماماً من التنسيق بين اليد والعين، وثبات العضلات، والبصر الجيد والصبر .. لكن هناك أمر أكثر غموضاً يميز القناص من غيره يعرّفه بعضهم بأنه غريزة صيد متأصلة، لا تكون موجودة دائماً في الرجال، وهي نادرة في النساء. بعضهم يعرف الأمر الغامض بأنه قوة الهدف، وامتلاك قوة الإرادة إلى ما هو أبعد من القاعدة المقبولة. إن إيمان لودميلا بوطنها وعدالة القضية السوفييتية، كان مطلقاً، ما منحها إصراراً استثنائياً لمواجهة الصعاب الساحقة.
من طباع لودميلا عدم حبها للأضواء، وهذا من طبيعة القناصة المتحفظين إلى درجة تقارب الانطواء. فقد كتبت إن القناص عليه ألا يلفت الانتباه إليه. كان الشرط الرئيس للعمل بنجاح هو الخفاء، وهذا لا ينطبق فقط على ساحة المعركة. القناص، بكلمات الكاتبة، يحتاج إلى صبر قطة، ومكر فطري وما يشبه الهوس بمهمته، ويحتاج إلى الصمت والهدوء والوقت للتأمل ولمراقبة محيطه.
حصلت على أعلى أوسمة الجيش الأحمر


عندما توجهت إلى الولايات المتحدة في زيارة رسمية ضمن وفد شبيبة، فوجئت بكيفية تعاطي الأميركيين مع الحرب، وذُهلت لسخافة أسئلة الصحافيين الأميركيين. فمن الأسئلة التي طرحت عليها أي مكياج تستعمل وطول تنورتها وما إذا كانت تستحم على الجبهة وحتى ما لون ملابسها الداخلية، مما دفعها لتشبيههم بالقوات النازية المهاجمة التي كانت تسعى إلى إرهاب العدو. كما رفضت باحتقار عرض شرط تصنيع سجائر أميركية لوضع صورتها على علب السجائر مقابل نصف مليون دولار. ولا يمكن نسيان مواجهتها اللفظية الأولى مع سيدة البيت الأبيض إلينور روزفلت، ما اضطر الأخيرة لمغادرة طاولة الطعام.
التواضع لم يكن ينقصها، فعندما هنأها قائد الجبهة في سفستبول على إصاباتها الكثيرة في صفوف العدو، أجابت إنهم «كان يهجمون بأعداد كثيرة حتى صار من غير الممكن إخطاء الهدف.
لقد تعرضت لودميلا لجراح كثيرة، جسدية ونفسية، لكنها عاشت لتكتب مذكراتها الثمينة قبل وفاتها عام 1974 عن عمر 58 عاماً.

* I am a sniper: In Battles for Sevastopol and Odessai. greenhill books 2015/ 2018. translation from russian: Alla Igorevna Begunova. 216 pp with many illustrations