لا يتوقّف سعدي يوسف (1934) عن التجوال، مثل سندباد بجناحين. هذا الشاعر سليل رحّالة وجغرافيين وعشّاق، يستكشف الضوء في أكثر الأماكن عتمة بحواسه الخمس. يتشمّم رائحة نبتة منسية في الظل، فتهبّ الرائحة على هيئة ذكرى أو أسطورة أو بيت طين مهمل. لم يعد المنفى عقاباً دنيوياً بقدر ما هو فضاء رحب لمقاومة العزلة والشيخوخة والفقدان. كأن «البلاد التي قد وُلدت بها لم تكن». ويضيف: «لم أبدأ في اكتشاف نفسي، ومعرفة ما أريد، إلا حين صرت رحّالة وحيداً»، منوّهاً إلى أن «المغادرة هي الأصل، والإقامة هي المؤقت». كتابه الجديد الذي يحمل الرقم 110 أسماه «أوراقي في المهبّ» (دار التكوين ـــــ دمشق). مزيج من يوميات ومواقف وأفكار، في أطلس مدن وأنهار وبشر، وإذا بالبصرة تقوده إلى بغداد، ودمشق، وبيروت، والجزائر، وعدن، ولندن، وحتى الصين.

غرف فنادق، ومحطات قطارات، وجزر نائية ومجهولة. احتفال بحياة يقودها مركب سكران بلا مجذاف. ابن بطوطة آخر، لكن بأسئلة مختلفة، وحيرة وجودية واحتدامات فكرية، وقبل ذلك، هو المشّاء في حقول الشعرية العربية، يجزّ بمنجله النقدي أسماءً، ويمتدح أسماءً أخرى، مثل عبد الأمير الحصيري وسركون بولص (الشاعر العراقي الوحيد) ليرتدّ لاحقاً إلى الشعر الجاهلي بوصفه بوصلة ديوان العرب في غياب التجارب العميقة. «ديوان العرب مأهول، لكن أيام الجاهلية الأولى» يقول. «حفيد امرئ القيس» لا يتردّد في المكاشفة بمصارحات فجّة، وفضح البذاءات الثقافية ونبذ حالات الاحتضار، ذاهباً إلى «مديح الخسارة» في تجسير الهوة نحو ما هو مشع ونادر، وما يقع في باب الخذلان، عن بلاد تعيش القهقرى، وسماسرة الحقبة الاستعمارية الجديدة، واندحار الذائقة الجمالية وصولاً إلى «شاعر المليون». هكذا اخترع «الشيوعي الأخير» مدوّنته الخاصة التي تشبه سفينة نوح: الغراب والهدهد فوق خشبة واحدة، من دون تزويق أو زخرفة، فضائح وفضائل، ألوان العار، وخريطة بلاد كانت ذات يوم بستاناً أو جنّة، قبل أن يجتاحها البرابرة والأوباش وصيارفة الثقافة، لكنه يهتف من متراسه المضاد «إنهم ذاهبون مع أول هبّة للريح، ولقد بدأ موسم العواصف». هذه الأوراق إذاً، هي حصيلة مواقف نقدية، وترجمات، وأسفار، وصورة شاعر ثمانيني بلا أقنعة أو تقيّة أو سقوف، في تشريح بثور الثقافة العربية من جهة، وتأريخ بهجات عابرة وسعادات روحية من جهةٍ ثانية. يقول مختزلاً تجواله «سيرتي: مغادرات متصلة»