أودّ بداية القول إنني لم ألتقِ يوماً سيدة سودانية إلا وكانت مثالاً للفضيلة والرقي وعزة النفس والأصالة، إضافة إلى ثقافة عالية، وإنني لم ألتقِ يوماً سودانياً إلا وكان غزيراً في علمه ذا ثقافة متميزة متعددة الطبقات وصاحب أخلاق عالية وشديد التواضع. وكلّ معارفي الذين حظوا مثلي بلقاء سيدات وسادة سودانيين يشاركونني هذا الرأي. هذه الخصال تميّز الشعب السوداني عن الشعوب العربية الأُخرى. فَمَنْ غير السودانيين يقيمون معرضاً للكتاب إبان اعتصامهم المستمر أمام مقر الحاكم العسكري!كنت قد اخترت «خط في النهر: الخرطوم، مدينة الذكريات» (بلومسبيري ـ 2018) قبل اندلاع انتفاضة السودانيين على طاغية الخرطوم الذي تمكّن من جمع نعتين في شخصه، كونه إخونجياً أضاع السودان وقاد إلى تقسيمها وتقسيم شعبها، وتحويلها إلى متسول على أبواب لئام مشايخ الخليج الفارسي. علماً بأن البلاد وصفت بأنه يمكن لها أن تكون سلة غذاء العالم العربي، وفي الوقت نفسه هو عسكري وفاسد كالعادة، كما تثبت التحقيقات الأخيرة. وها هم لصوص الانتفاضة السودانية الشعبية العارمة يحاولون مصادرتها والاحتفاظ بالسلطة، مطيعين أوامر أسيادهم في لندن وواشنطن.


كاتب هذا المؤلف هو جمال محجوب روائي بريطاني- سوداني صاحب مؤلفات عديدة. عاش في السودان فترة لكنه اضطر لمغادرة وطنه مع والديه عام 1989 بعد انقلاب عمر البشير والإخونجية، لكنه عاد إليه في فترات متقطعة عامي 2008 و2012، على أمل أن يجمع شظايا هويته البريطانية (بطريق والدته) والسودانية (بطريق والده) في وحدة متماسكة، يستكشف ذكرياته الخاصة عن الخرطوم، ما يدفعه لدراسة الماضي الثري والحاضر الحزين في السودان. يجمع الكاتب في مؤلفه قصته الخاصة مع قضايا الاستعمار والدين والسياسة والمذكرات لتشكيل صورة حيوية متعدّدة الطبقات عن بلد معقد، لكنه يرى تدهورها المستمر تحت حكم العسكر والإخونجية.
يقول الكاتب إن عمله نتاج عشر سنوات من الكتابة والبحث، وهو توثيق لعودته إلى البلد الذي نشأ فيه مستكشفاً الماضي والحاضر، بدءاً من تطلع السودان للاستقلال وانتهاءً بتفكّكه فيجد المدينة في طفرة اقتصادية مدفوعة بالنفط، منتفخة بالمهاجرين والأجانب والبناء الجديد، لكنها غارقة في الشذوذ والغليان تحت الحكم الإخونجي-العسكري الاستبدادي. تقاريره تتأرجح بين المتسوّلين المصابين بالشلل إلى جانب السيارات الفاخرة والبيروقراطية القيامية. وتتناقض هذه المشاهد مع ذكريات الصبا حين كانت البلاد أكثر ترحيباً بالعالم مثل نزهات القوارب ومشاهدة الأفلام في دور السينما المغلقة الآن، وهو ينسج في مسح ملوّن لكنه مفكك، تاريخ السودان من معارك القرن التاسع عشر بين المسلمين والإمبرياليين البريطانيين إلى الحروب القبلية والطائفية المعاصرة في جنوب السودان ودارفور.
توثيق لعودته إلى البلد الذي نشأ فيه، مستكشفاً ماضيه وحاضره


يبيّن الكاتب أن الخرطوم، مثل بقية السودان، ليست مدينة واحدة على الإطلاق، بل مكسورة، بُنيت عند التقاء النيلين الأزرق والأبيض، وهي مقسمة إلى ثلاث. هذه التعددية معلقة على المدينة كتذكير صارخ بطبيعة البلد، أي التنوع والتعددية وإمكانية الوحدة.
لقد نال المؤلف عروضاً كثيرة وقيل فيه وفي الكاتب كثير من المديح، ومن ذلك أنه يكتب بقوة التاريخ الشخصي وتاريخ المدينة والأمة على السواء. إنه مؤلف مفعم بالحيوية يدور حول مكان يعرفه عدد قليل من الناس. وقيل أيضاً لأن سرد الكاتب ينجذب إلى التفاصيل الدقيقة والكشف عن الشخصية وخط الصدع المدفون في نهاية الرحلة، سيجد القراء أنفسهم يتشاركون في افتتانه بهذا المكان المعقد. فالكاتب يشعر بالراحة في نسج الطبقات المعقدة من التاريخ والسياسة والدين والثقافة في حكاية غنائية. وأي شخص مهتم باستكشاف التأثير الذي يمكن أن يحدثه هذا الزمان والمكان والتاريخ في الثقافة أو الفرد، سيشدّه سرد الكاتب، في حين أن الذين لديهم فضول حول تعقيد السودان سيعثرون فيه على إجابات عن تساؤلاتهم.
يؤكد الكاتب إدراكه تمام الإدراك أنّ مؤلفاً كهذا سوف ينظر إليه بعضهم على أنه تأييد لوجهة نظر مفادها أن إفريقيا حالة ميؤوس منها، لكنه يصر على أن كل شيء ليس كئيباً. إذ يجب أن يكون هناك مكان للنقد البناء، من دون محاولة التظاهر بأن كل شيء رائع، لكن من المنطلق نفسه، لا يؤمن بإمكانية الاستسلام بل يجب أن يكون لدى المرء الأمل. مشكلة القارَّة، في ظنه، أنها عانت منذ عهد الاستقلال في ستينيات القرن الماضي محاولات اللحاق بالغرب بدلاً من ابتكار طريقها الخاص. لقد شجع الغرب، الذي يتوق إلى تأمين مصالحه الخاصة، هذه الفكرة، لكن إفريقيا تحتاج إلى حلول مبتكرة لمشاكلها الفريدة.

*A line in the river: Khartoum, city of memory. Bloomsbury publishing 2018. 272 pp. jamal mahjoub