تفيد المراجع العلمية بأن الأنثروبولوجيا هي الدراسة العلمية للإنسان والسلوك البشري والمجتمعات في الماضي والحاضر. الأنثروبولوجيا الاجتماعية والأنثروبولوجيا الثقافية تدرسان قواعد المجتمعات وقيمها. أما الأنثروبولوجيا اللغوية، فتدرس تأثير اللغة في الحياة الاجتماعية. الأنثروبولوجيا البيولوجية أو الفيزيائية تدرس بدورها التطور البيولوجي للبشر. أما علم الآثار، فيعد فرعاً من الأنثروبولوجيا في الولايات المتحدة وكندا، بينما يُنظر إليه في أوروبا على أنه تخصّص مستقل.بحسب ماثيو انغلكيه، وهو الأنثروبولوجي في «كلية لندن للاقتصاد» ومحرر مجلة Journal of the Royal Anthropological Institute، فإن تقديم الأنثروبولوجيا ليس بالأمر السهل لأنه لا يمكن تغطية كل شيء، فيعمد إلى تحذير القارئ في كتابه «فَكِّر أنثرُبولوجياً» (بيليكان ـ 2017) بالقول: «عليك أن تكون حذراً لما ستقرأه في المؤلف». ولأنه يعترف أيضاً بأن الأنثروبولوجيا تخصّص يبدو ذا قيمة عملية ومهنية ضئيلة، يستعين بقول الكاتبة والصحافية الإنكليزية غيليان تِت التي تحدثت عن كيفية إسهام تدرّبها أنثروبولوجياً في انتقالها إلى عالم الصحافة المالية. وأضافت: «في ظني أن الأنثروبولوجيا خلفية رائعة للنظر في تدبير الموارد المالية». هي تعرف أن الأنثروبولوجي مدرب للنظر في كيفية عمل المجتمعات أو الثقافات كلياً، والخلفية الأنثروبولوجية تمكّن المرء من وضع تدبير الموارد المالية في سياق ثقافي. فالمصرفيون يحبون تخيل أنّ المال والربح أمران غير شخصيين، وإنما دافعان عالميان كالجاذبية، مع أن ما يفعلونه في تدبير الموارد المالية هو ثقافة وتفاعل.


للعلم، ثمة العديد من الشخصيات العالمية التي درست الأنثروبولوجيا من بينها الأمير تشارلز والصحافية غيليان تِت آنفة الذكر، والسينمائية النيوزيلندية جين كامبيون مخرجة فيلم «البيانو»، وكذلك والدة باراك أوباما، آن دنهام، التي كانت عالمة أنثروبولوجية في إندونيسيا، والزعيم الكيني جومو كينياتا والرئيس الأفغاني أشرف غاني.
بحسب الكاتب، فالأنثروبولوجيا أكثر من مجرّد تخصّص أكاديمي لأن استخداماتها عديدة. ثمة علماء أنثروبولوجيا يوظفون مهاراتهم لخدمة الجيش الأميركي، وهناك أيضاً أنثروبولوجيون يصبحون مستشارين محترفين ويبدأون أعمالهم التجارية الخاصة لتوفير «حلول إثنوغرافية» لمختلف المشكلات، التي قد تراوح من مساعدة جمعية الإسكان على التعرّف إلى علامات العنف المنزلي بين المستأجرين، إلى تقديم المشورة حول أفضل الوسائل التي تمكّن شركة مستحضرات تجميل فرنسية من تسويق منتجاتها في الأردن، دوماً وفق الكاتب. وهذا ما يفسّر سبب تقديم «جامعة كوبنهاغن» إمكانية الحصول على شهادة الماجستير في «الأنثروبولوجيا التجارية والتنظيمية».
يوضح الكاتب كيف يمكن للأنثروبولوجيا أن توفّر إحدى الوسائل التي تمكّننا من معرفة الآخرين ولماذا يعيشون كما هم؛ وكيف تؤثر في الثقافة، التي هي مفهوم محوري في الأنثروبولوجيا، وفي الطريقة التي يرون بها العالم ويتفاعلون معه. وهو يرى أن الأنثروبولوجيا مدفوعة بالفضول في ما يتعلق بأشكال التعبير البشري والمؤسسات والالتزامات. فقد أجريت البحوث الأنثروبولوجية ضمن مجموعة مذهلة من السياقات، من القبائل المعزولة تماماً عن بقية العالم، إلى الجماعات (tribes) العاملة داخل الأسواق المالية في المدينة. فالعمل الميداني يعدّ في كلا الحالتين أمراً حيوياً، مثل ملاحظات مُشارك يندمج فيها الباحث في الجماعة أو القبيلة المعنية، ويعيش ويأكل معها ويتعلم لغتها. مع أن مراقبة حياة القبائل في الأدغال أمر أصعب من مراقبة فرقة تجار إلكترونيين في مانهاتن، لكن الموضوع الأول يعد أكثر إلحاحاً مع أن تصرفات قبائل في الأدغال لا تؤثر مباشرة إلا في عدد صغير من الأشخاص، بينما تؤثر حياة التجار في حياة الملايين كما تبين في الأزمة المالية العالمية الأخيرة. فالأنثروبولوجيا تتعامل مع المشكلات العظيمة التي قاربها الفلاسفة لقرون عدة. ما هي الهوية في عالم دائم التغيّر؟ هل هناك قيم أخلاقية عالمية؟ هل هناك تمثيلات جماعية، ناهيك بالأطر الإدراكية/المفاهيمية العالمية؟ ما الذي يربط المجتمعات ببعضها؟ لماذا يجب أن نثق في تفسير علماء الأنثروبولوجيا للثقافات الأخرى عندما يحملون تحيزات، مفصولة عن طريق الحواجز اللغوية وغالباً ما يضللهم المخبرون الأصليون؟
لكن رغم كلّ الصعوبات العملية والنظرية في فهم الثقافات الأخرى، ما زلنا في حاجة إلى علماء الأنثروبولوجيا لإرشادنا في متاهة المعتقدات والقيم والعادات الخاصة عند التعامل مع المجتمعات الأخرى. على سبيل المثال، تم أخيراً فهم الانتشار السريع لوباء الإيبولا في غرب أفريقيا عندما تمّت الإشارة إلى العادات المحلية لرعاية الموتى، كما يمكن تفسير انخفاض استهلاك التبرع بالأعضاء في اليابان الصناعية من خلال معرفة وجود إيمان هناك بأن الوفاة انتقال وليست ترسيماً مطلقاً، وبالتالي يسود الاعتقاد في الجسد المتكامل.
تهدف الأنثروبولوجيا إلى جعل المألوف غريباً والغريب مألوفاً.
خادمة للتوسع الاستعماري وسلطة التفوق الأبيض


في الفصل الأول «الثقافة»، يتنقل الكاتب بين الأفكار الأنثروبولوجية المختلفة حولها، مثل مصطلح النظارات الثقافية (Kulturbrille) والثقافة المادية وعلاقة الثقافة بالطبيعة والعقل ويتّضح أنه نظراً إلى أن ممارسات السكان وتوقعاتهم تتسم بالسلاسة والتعقيد ولا يمكن تصنيفها بسهولة، كذلك هو فهمنا لمفهوم «الثقافة».
في الفصل الثاني «الحضارة»، يبدأ الكاتب بالقول: «من الذي يستخدم هذه المفردة بعد الآن؟ السياسيون والنقاد وجماعات الضغط والصحافيون وغيرهم من المعلّقين يستحضرون بانتظام فكرة «الثقافة». ولذلك فمن المهم معرفة معناها في ظنهم». يتعامل الكاتب أيضاً مع الماضي المتقلّب للأنثروبولوجيا كخادمة للتوسع الاستعماري ولسلطة التفوق الأبيض، وهو يتعامل أيضاً مع القضايا المعاصرة مثل «الحرب على الإرهاب» الأميركية والتنمية العالمية من خلال عدسة الأنثروبولوجيا.
في الفصلين الثالث والرابع يفصل الكاتب «القِيَم/ values» عن «القيمة» على التوالي. فالقيم هي تلك الأشياء الغامضة التي يراودها الناس والتي تخدم كهيكل موحّد للمجتمع أو الدولة القومية. أما القيمة فهي تلك التي نضعها على البضائع المادية: الأشياء التي نحتفظ بها ونتاجر بها ونهبها؛ الأشياء التي نذهب إليها في الدين.
الكاتب يوضح في الفصل الخامس «الدم» وفي الفصل السادس «الهوية» أن المصطلحين ليسا مترابطين. فالأول معني بفصل القرابة والمعاني المتغيرة للأسرة، في حين أن الفصل المتعلّق بالهوية هو أكثر بكثير حول كيفية بناء الأفراد والمجتمعات والأمم من خلال أنظمة القيم المشتركة.
الفصول المتبقية تتعامل مع السلطة (السابع) والعقل (الثامن) والطبيعة (التاسع والأخير). الأخيران يأخذان القراء إلى منطقة أكثر فلسفية ونفسية، ويختم المؤلف عمله بملحق «كيف تفكّر أنثروبولوجياً».

* Think like an anthropologist. Pelican 2017. 368 pp. Matthew Engelke