عندما يتعلق الأمر بالشعر الإيراني الحديث، يتوقف القارئ العربي عند أسماء محدودة، ولدت في الغالب مع نهاية القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين، أمثال: نيما يوشيج، سهراب سبهري، فروغ فرخزاد، مهدي اخوان ثالث، رضا أحمدي، بيجن جلالي، أحمد شاملو، بروين اعتصامي، تقي رفعت وسيمين بهبهاني وغيرهم. لكن ماذا عن شعراء الأجيال اللاحقة، أولئك الذين ولدوا بعد منتصف القرن الماضي، وواكبوا التحول السريع للعصر، حيث الاكتساح المريب للتكنولوجيا وتراجع القيم الروحية؟هذا السؤال يجيب عنه المترجم العراقي من أصول فارسية محمد الأمين الكرخي المقيم في هولندا، وهو يقدم لنا ترجمة الكتاب الشعري «أخضر أحمر» للشاعر الإيراني صادق رحماني المولود سنة 1964 في مدينة كراش التابعة لمحافظة فارس، ومركزها شيراز. والترجمة صادرة ضمن «منشورات الجار» (همسايه) في إيران في ستين صفحة من القطع الصغير، وبلوحة للتشكيلية الهولندية ليوس بوتمان.تمزج تجربة الكتابة في معظم نصوص «أخضر وأحمر» بين شكلين إبداعيين متباعدين في الجغرافيا والتاريخ: الرباعيات الفارسية والهايكو اليابانية. غير أن ما يجمعهما هو التكثيف: تكثيف لغة الكتابة من جهة، عبر إدراج المعنى في أقل مفردات ممكنة، وتكثيف اللحظة الزمنية للتجربة، عبر جعل الدلالة محصورة في إطار زماني محدد، يتلاءم ومفهوم قصيدة الومضة. بمعنى أن النص الذي يُنطق أو يُقرأ في فترة زمنية قصيرة جداً يجب أن يكون الحدثُ فيه أيضاً وامضاً، وإن كان أثره اللاحق يستمر لفترة أطول. لنتأمل هذه الومضة: «عندما فتحتُ الباب/ بغتةً انهمرت في أعماقي/ طيور عينيكِ الحزينة»، أو هذه: «فجأة/ تصير عيناك المباغتتان كالقمر/ فيما تمتلئ بالسواد/ دهشةُ عيني». إن مؤشرات لغوية من قبيل «بغتة، فجأة» تخدم الدلالة والشكل اللذين تحتاجهما القصيدة الشذرية.
حظيت أعمال صادق رحماني بتقدير في الأوساط الثقافية الإيرانية


غير أن هذه التجربة التي يتناغم فيها شكل الكتابة مع المعنى الذي تحمله ليست وحدها الحاضرة في الكتاب، إذ تحضر بالموازاة معها نصوص شذرية أخرى ساكنة، بصور شعرية مركبة من جمل لا أفعال فيها: «الضفيرة الطويلة للنخلة/ على كتف الريح/ مثل جناح طاووسٍ في الماء». بلاغة التكثيف هنا يدل عليها توظيف الشاعر لمشهد واحد في ثلاثة أسطر قصيرة، لكن بثلاثة تركيبات بلاغية: استعارتان في السطرين الأول والثاني، وتشبيه في السطر الثالث.
لا يولي الشاعر أهمية كبيرة للبلاغة وأداوت التجميل اللغوية، إذ يبدو مشغولاً أكثر ببناء النص وصياغته في قالب يُحدث الدهشةَ لدى القارئ، عبر اعتماده بنية المفارقة في أغلب النصوص. لكن الشاعر، وهو يتخفف من البلاغات الثقيلة يكشف عن مهارة كبيرة في بناء الأبيغرامات التي تحمل ــــ بالرغم من قصرها ــــ دلالات إنسانية عميقة. فحين يقول مثلاً «ليس لهم باقة ورد/ ولا آنيات ملأى بالماء/ الرجالُ الغرباء في زاوية المقبرة» نكتشف في النص الموازي، الذي يوجد أسفل هذه الشذرة، أنه يقصد قبور الأفغان التي يندر أن يزورها أحد. يحاول الشاعر أن ينقل هذه الحالة الشعورية إلى القارئ وبالتالي يؤثرَ فيه، دون قناع بلاغي، إذ لا يوجد أي أسلوب بلاغي في هذه الأسطر الثلاثة.
الأمر ذاته يتكرر في نصوص أخرى: «بيت رستم خان العتيق/ كان مأهولاً ذات يوم/ وعلى رفّه هذا/ كانت بندقية». تخفي خلفها هذه الأسطر الثلاثة الخالية من البلاغة حكاية ما، وتفتح لدى المتلقي باباً شاسعاً نحو التأويل، وتَخيُّلِ الحياة التي كان يضجّ بها بيت رستم خان، أحد حكّام منطقة كَراش، كما تحرّك لديه عاطفة التحسّر على ما آل إليه.
ويبدو أن التكثيف الذي اعتمده الشاعر في «أخضر وأحمر» سيدفعه إلى تذييل عدد من النصوص بهوامشَ وحواشٍ يبدو المراد منها هو شرح ما ورد في الشذرات الشعرية. وتشكل هذه الهوامش نصوصاً تندرج ضمن كتابة موازية، تحمل قيماً معرفية بالأساس، تضيء المتن.
أنجز محمد الأمين الكرخي في السنوات الأخيرة ترجمات لكّل من سهراب سبهري وفروغ فرخزاد، فضلاً عن شذرات عباس كياروستامي، ويحسب له مع الترجمة الأخيرة لـ«أخضر أحمر» أنه قدّم للقارئ العربي اسماً جديداً في الشعر الفارسي، حظي عمله الشعري بتقدير في الأوساط الثقافية الإيرانية. وهذا ما يفترض بالمترجمين الآن، أي نقل نصوص فارسية جديدة إلى المتلقي العربي، ونقل نصوص عربية راهنة إلى قارئ الفارسية، بدل إعادة ترجمة النصوص نفسها للأسماء المتداولة نفسها بين الضفتين.