«لم أربح مرة ما يساوي ورقة اليانصيب التي أشتريها أسبوعياً. لم أستردّ ثمن ورقة واحدة، فكيف تريدينني يا ليما أن أحوّل التاريخ نحو الوجهة الفضلى؟». لا تبدو الكتابة الروائية عند رشيد الضعيف (1945) مهووسة بالتاريخ أو النظريات أو التصنيفات التي تضعها في خانة الروايات التاريخية أو النفسية أو الفانتازية. لكن صاحب «عزيزي السيد كواباتا» و«تصطفل ميريل ستريب» و«هرة سيكيريدا»، لا يزال يستمتع بلعبته الأثيرة في تعرية السياسة والثقافة والمجتمع، تارة خلف قناع السخرية السوداء، أو انطلاقاً من فكرة فرويدية حول الفطام كما يفتتح روايته الجديدة «خطأ غير مقصود» (دار الساقي ــــ ٢٠١٩) لينفذ سريعاً من هذه الفكرة الى نقد مجتمعاتنا في قيم الأبوّة والأمومة التي تُبنى عليها قوانيننا وتحكم سلوكنا وأخلاقنا. في هذه الرواية، كما في «ألواح» (دار الساقي ــــ ٢٠١٦) التي سبقتها، يوهم «دون كيشوت الرواية اللبنانية» القرّاء بأنهم أمام كاتب يفضح ويعرّي نفسه في حميمياته من أجل مكاثفة لذة القراءة. لا يستند الضعيف في عمله الجديد إلى البنية التقليدية للرواية من عقدة وتطور درامي وبناء للعالم الداخلي لشخصياتها، وإنما هي رواية «لم أنسج فيها على منوال، وكتَبتها بحريتي»، على ما في هذه الكتابة الحرة من مغامرة محفوفة بالمخاطر. يقول صاحب «تبليط البحر» و«ليرننغ انغلش» جملة أثيرة: «أنا لست أديباً. أما كتبي فلا يعطيها الأب لابنته لتقرأها كي تتحسن لغتها. أكتب أشياء مزعجة وأُسمّي كتابتي «الكتابة الدنيا»، بخلاف ما أسمّيه الرواية «الفصحى» التي تُعَلَّم في المدارس، أو تُقرأ بفخر في الأمكنة العامة، ويستحق الأديب على كتابتها أو قراءتها تمثالاً يخلّد ذكراه في ما بعد». خصّ رشيد الضعيف ملحق «كلمات» بحوار شامل حول الكتابة والثقافة والسياسة والأيديولوجيا والحرب والموت والحياة، كأن هذه الأقانيم كلها هي في خدمة الكتابة الروائية لا العكس.

تبدأ روايتك الجديدة «خطأ غير مقصود» بالإشكالية الفرويدية حول فطام الطفل عن الأم. هل على القارئ أن يتوقع منك رواية نفسية والقارئ بحاجة إلى نظرية ما للشروع في القراءة؟
ــــ قبل أن أبدأ بالكلام، أطلب من القارئ أن ينسى كل ما سأقوله حول روايتي، وأن يقرأها بنفسه وعلى طريقته. لست دليلاً لمعاني كتبي. الكتاب ملك القارئ، وهذا ليس شعاراً، بل حقيقة راسخة. وأحياناً الكاتب آخر من يعلم بقيمة الكتاب وبخصوصيته ومحتواه. وكثيراً ما يكون أثر الكتاب مخالفاً بل معاكساً لما أراده له الكاتب. بعد أن أنتهي من عمل، أتحوّل أنا أيضاً إلى قارئ لهذا العمل. ولو أنني قارئ من مسافة قريبة. في لحظة الكتابة، أتخلّى عن النظريات والمفاهيم، وبالتالي فالإشارة إلى فرويد في الفصل الأول لم تكن بالمعنى «النفسي»، وإنما بالمعنى الثقافي والأخلاقي، وذلك لأتناول موضوعاً أساسياً في ثقافتنا ومجتمعاتنا في العالم العربي أو «العالَم الثالث». انطلقتُ من فكرة فرويدية شائعة كمدخل لنقد «قيمة» الأمومة والأبوة. وما كان يجول في خاطري أثناء كتابة هذا الفصل، هو لماذا لا نستطيع أن نبني دُوَلاً، مع أننا انطلقنا من النقطة ذاتها التي انطلقتْ منها اليابان مثلاً. الفارق اليومَ هائل بيننا وبينهم. أظنّ أن الأمر، في وجه من وجوهه، راجعٌ إلى «قيمة» الأمومة والأبوّة، التي تُبنى عليها قوانيننا وتحكم سلوكَنا. إنّ الميكروبات التي منعتنا من بناء دُول «حديثة» هي ميكروبات ورثناها من أهلنا ونحن بدورنا ننقلها إلى أولادنا. هذا القول ليس تحليلاً نفسياً، بل قول نقدي ثقافي وأخلاقي. اعتبرَ جان بول سارتر نفسه محظوظاً لأن والده مات وهو طفل في عمر سنة. لم ينهرني والداي إطلاقاً لأنني رميت عقب سيجارة في الطريق، أمّا لو أنني فعلت ذلك في البيت فيكون اللوم عظيماً.

الرواية سيرة لرجل ينتظر تشخيص البروستات والمرض الخبيث الذي قد ينتظره بعد شهرين. في العالم اليوم أدب رائج حول المرض، لو أخذنا عالمياً الرواية الأخيرة للبرتغالي أنطونيو لوبو أنتونيس «الى تلك التي تنتظرني جالسة في العتمة» أو محلياً رواية عباس بيضون الأخيرة «شهران لرلى». هل الكتابة عن المرض مغرية؟ وهل الكتاب سيرة مرضية شخصية؟
ــــ بالمناسبة أنا صحتي جيدة جداً، ولا أعاني من أمراض الضغط أو القلب أو الكوليسترول أو أي مرض آخر، وبالتالي فإن اختيار «البروستات» في «خطأ غير مقصود» هو خيار روائي بحت، لأن نسبة مرتفعة جداً من الرجال يتعرّضون مع العمر لمشاكل في البروستات. اختيار هذا المرض يُعطي النصّ قوّة إقناع. يحقّ للقارئ أن يتخيّل بأني المقصود بالأمر، شخصياً، لكنّ هذا الاعتبار يجب ألا يكون له أثر على استقلاليّة النصّ. أكتب نَصّاً روائيّاً يبدو أنني أتكلم فيه عن ذاتي لأكاثف لذة القراءة: يشعر القارئ بأنه أمام كاتب يفضح نفسه ويعرّي نفسه في حميميّاته، ما يضاعف متعة القراءة. هذه حيلة أعتمدها منذ أن شرعت في الكتابة. منذ روايتي الأولى. أوهم بأنني أكتب سيرة ذاتيّة، بينما أنا أكتب رواية. ولكن ما أكتب عنه هي مشاكلي بالتأكيد وهمومي ومخاوفي وأفراحي وأحزاني، (إضافةً إلى أنها مشاكل مجتمعي ومشاكل جيلي). لكن هذا لا يعني أنها حدثت لي بالضرورة.
أنا الراوي لست تمثيليّاً (أي لا أمثّل أحداً، فئةً أو طبقةً أو شعباً)، لكنّني أشبه نفسي أنا الكاتب، وأشبه عشرات الملايين من الناس الرجال بخاصّة. ثمّ، ليس من عادتنا أن يعرّي الرجل ذكورتَه. أنا لا أخجل من ذلك. بل أراه ضرورة.
أنتمي إلى «جيل الصدمات» الذي أراد تغيير العالم، ومع بداية الحرب الأهلية شعر بأن كل النظريات انهارت وتساقطت


الرواية الأخيرة لا تشبه في بنيتها العمارة المألوفة روائياً من عقدة وبناء شخصيات وتطور أحداث وغيرها مما قد يضعها خارج التصنيف المألوف أو المقارنة مع غيرها من أعمالك أو أعمال غيرك. هل خلخلة البنية كانت خطأً مقصوداً؟
ــــ لم أتعمّد خلخلةَ شيء في «خطأ غير مقصود» و«ألواح»، لكنّني كتبتُ على سجيّتي، ولم أنسج على منوال. كتبت بحرّيتي! وكل كتابة حرّة مغامرة كبرى. كتبت كتابيَّ الأخيرَين هذين بتلقائيّة، ولم أطبّق فيهما نظريّة ولا اعتمدتُ مبدأً، وهذه عمليّة محفوفة بالمخاطر المميتة، ونسبة الفشل فيها عالية. عندما تكتب بحريتك، فإنك تقترب من ذاتك. الذات بؤرة حارقة! لا يزعجني ألّا يسمّيها أحد ما رواية. فليسمها ما يشاء.
أُحب أن أشبّه «خطأ غير مقصود» بشظايا قنبلة واحدة. فيها مبدأ ضابط يستطيع القارئ أن يدركه بلا كثير من عناء. أضيف إلى ذلك: إن هذا العمل هو بلا شكّ، وبطبيعته، مساءلةٌ للنوع الروائي. وهو بلا شكّ تخطٍّ للحدود المرسومة. ربّما أردت فيه ألّا أنتعل حذاءً انتعله غيري، وألّا ألبس ثياباً جاهزة.

هل الحياة برمّتها «خطأ غير مقصود»؟ وهل الشعارات الثورية بتغيير العالم وأنت قد تبنّيتها في مرحلة ما تتهافت بمرور الزمن؟
ــــ لا أحبّ أن ألعب دور الحكيم الذي عجنته الحياة وراح يلقي النصائح ويوضح معاني الحياة والوجود. هناك لا شك بعض ممن يتقدم به العمر، يشعر بتفاهة الأشياء ولامعناها. أنا بالتأكيد أنتمي إلى جيل يمكن تسميته بـ«جيل الصدمات». كنا نريد تغيير العالم، ومع بداية الحرب الأهلية اللبنانية شعرنا بأن كل النظريات التي حاولنا أن نفهم بها العالم ونغيّره بها، انهارت وتساقطت. كانت محاولات اليسار للخروج من المأزق الذي تضعنا فيه الأنظمة والطوائف، مكلفة ولم تتكلل بالنجاح. لكن فشل اليسار لا يعني صواب الطوائف وقوى الظلام والجمود والعودة إلى الأصول. أنا مؤمن بأن الإنسان قادر بالمبدأ على الخلق والإبداع. الإنسان كائن خلّاق إذا انتبه.

تبدو الرواية مشغولة بهموم صغيرة كإضاعة محطة الباص في برلين، لكننا نكتشف أنها تطل من خلال الأحداث الصغيرة على التاريخ والسياسة والثقافة. ما رأيك؟
ــــ رأيي من رأيك. لكن انتبهْ، هناك طريقة في الكتابة أتّبعها دائماً، وهي أنني أصف الحدث لا الحقيقة. ما يعنيني روائيّاً هو الحدث لا الحقيقة. إن الحدث كاللغة، حمّال أوجه، قد يـُفهم بألف طريقة. وقد يُفهم منه، في حالات بعينها، الشيء وضدّه، حسب هوى القارئ وثقافته. بعد هذا الحذر من تفسير الحدث للعبور منه إلى الحقيقة، أقول إنني كتبت فصل «برلين: الخريطة تعمي السائق» وصفاً لحادثة بالذات، ووصفاً لما حدث مع الراوي، ولكنني، كقارئ، أفسّر هذه الحادثة بأنّه موقف نقدي من «الفوقية الغربية»، وبأنّه إشارة إلى حالة الضياع والعجز والتمزّق التي يجد فيها العربي نفسَه، أو الآخر غير الغربي، في مدينة كبرلين. بهذا المعنى، الرواية موغلة في التاريخ، لكن دون أن تتحوّل إلى بروباغندا شعاراتيّة.
حين أفسّر، كقارئ، الفصل الذي وصفت فيه حادثة الاسم «الضعيف» في «ألواح»، فإنني أرى فيه نافذةً إلى دلالة الاسم بشكل عام. الاسم كارثة كبرى. مؤامرة. الخليج الفارسي أو الخليج العربي تضعك على ضفة أو على أخرى في السياسة، الإسرائيليون يهوّدون أسماء المدن الفلسطينية العربية لأنّ الاسم تملّكٌ للمُسمّى. حادثة الاسم في «ألواح» أفسّرها، كقارئ، بأنها تشير إلى مبدأ ثقافي، يحكم سلوكنا ويحدّد وعينا لأنفسنا وللعالم. لاحظ مثلاً الأسماء وعلاقتها بالأديان والطوائف. أو الأسماء وعلاقتها بالأمم. ألا ترى كلّ أمّة ملتفّة على حزمة من الأسماء؟ وكذلك كلّ طائفة ودين؟

هذا النقاش في الثقافة هو ما تتابعه في الرواية الأخيرة إذاً؟
ــــ الرواية ليست مقالاً في الثقافة. لكن يحق للقارئ أن يقاربها من زاوية ثقافيّة. وإذا نظرنا إلى «خطأ غير مقصود» من هذه الزاوية، فإننا نجدها لا شكّ موغلة في «الثقافة». حين تتكلم عن الأهل الذين يريدون من أولادهم أن يحقّقوا أحلامهم هم، وعن الأم التي يهمّها أن يكون بيتها نظيفاً أكثر من الطريق، فهذا في صلب المواضيع «الثقافيّة». هل يجب على الرواية أن تقول «العدو الغاشم» لتتكلم عن النضال؟ أم أن الأمر برمته مطية للشهرة والأضواء؟ في أعمالي نقد للسائد في ثقافتنا اليوم، وفيها موقف من الأسس الأخلاقية. هي مساءلة لقيَم أساسيّة مثل الأمومة والأبوة والإيمان والحب والمواطنة والنضال... هذه القيم التي تبنى عليها السياسة والقرارات والمؤسسات. أنا أسائلها مساءلة نقديّة، وبلا ممالأة، وبهذا المعنى أنا في جوف التاريخ.

تكلمت في الرواية عن جدتك المهاجرة التي يحاول مخدومها الأميركي استغلال جسدها بسبب فقرها، والراوي الذي يعيد الكرة مع «فاكرة»، العاملة الإثيوبية. هل أردت أن تقارب الفقر والجوع والعنصرية مع فارق الزمن واللون؟
ــــ «الفقر يغري» هكذا قال الراوي في أحد فصول الرواية. المخدوم الأميركي الذي يستفيد من سلطة المال ليتصرّف بالجدة المهاجرة الفقيرة، يشبه الراوي اللبناني الذي يستفيد من سلطة المال ليتصرّف بالعاملة الإثيوبية «فاكرة». أقمت هذه الموازاة لأقول إن الفقر أمر كونيٌّ. ومن يتحكم بالسلطة من موقع المال، إذا لم يكن له رادع، يضرب بالأخلاق ومشاعر الآخرين عرض الحائط. حين ينتهي الراوي من الفعل الجنسي مع «فاكرة»، يكتشف أنها تتقيأ في الحمّام، كأنها تفرغه هو ذاته من جوفها، تبصقه، لأنها وإن كانت لا تملك المال، فإنّها تملك الكرامة. لا أكتب روايات بسيكولوجية كما أسلفت حول الفقر. أردت في هذا الفصل عن «فاكرة» إعادةَ اعتبار لهذه العاملة، إعادة اعتبار للون الأسود الفقير، ونقداً للذات، فنحن عنصريون، وعندما نمتلك سلطة المال أو أي سلطة أخرى، نمارسها بشكل غير أخلاقي، ونمارس الفوقية ذاتها التي مارسها الرجل الأبيض مع جداتنا المهاجرات إلى الأميركيّتين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وما زال الفقر يغري.

الجسد هو الفوضى، هو مكمن الخطر وهو أقوى من الروح التي تبدو أمامه شيئاً بسيطاً (ر. ض.)


«أوقفوا الحرب توقفوا الموت» تقول، هل الموت برأيك غائب خارج الحرب؟
ــــ الإنسان بطبعه يحتاج إلى الحرب. الحرب توهمه بأنّ للموت سبباً. هو يعلم في أعماقه أن الموت ليس له سبب. المرض ليس من أسباب الموت. المرض طريقة وحسب. الموت حق كما يقول التعبير الديني. لذلك إذا وجدنا أسباباً للموت فإننا نستطيع معالجتها والانتصار عليها. وبما أنّ ليس للموت أسباباً، فإننا نخترع له أسباباً ونوهم أنفسنا بها. نوهم أنفسَنا بأنّ الحرب سبب الموت، ونوهم أنفسَنا بأننا إذا أبطلنا الحرب نبطل أسباب الموت. نخترع الحرب لنخترع للموت أسباباً. إذا أردنا الخلاص، وإذا كان هناك مجال للخلاص، فما علينا إلا أن نذهب إلى المسائل المستحيلة. لا حلّ إلّا بمجابهة المستحيل كما جاء في نهاية الرواية. لا النادلة الشابّة «غنى» ولا الكتابة ولا أيّ شيء آخر يخلّص «نعيم» من مصيره المحتوم. لا شيء إلا بمجابهة المستحيل. لا بشيء آخر.

ترد على لسان نعيم، صديق الراوي الشيوعي عبارات حول العنف الثوري. هل كانت هذه شعاراتك أنت أيضاً التي آمنت بها؟
ــــ نعم، آمنّا بالعنف الثوري، كمرحلة آلام ضروريّة تاريخياً، لأن الطبقة الحاكمة لا تتخلى عن مواقعها إلّا بالقوّة. العنف الثوري كان ممرّاً إجباريّاً لبلوغ مجتمع العدل والحريّة، المجتمع الاشتراكي. هذه كانت رؤيتنا. ولكن من المهم جدّاً ألّا تبرّر أخطاء اليسار العودة إلى الطوائف والعنف الديني والمذهبي، والهويّات المذهبيّة المقيتة. أرى أننا، في لبنان والعالم العربي كافّة، بحاجة إلى إعادة النظر في سلوكنا وعقائدنا ونظريّاتنا، يميناً ويساراً ووسطاً، مؤمنين وملحدين ولا أدريين.

يرد في أحد فصول الرواية مقطع فانتازي حول صديقك العجوز الذي يتداوى من الألم بوضع قدميه على بطن غلام أو فتاة، ما يحيلنا إلى كواباتا في «الجميلات النائمات». هل هذه كتابة للحس والشبق؟
ــــ رغم أني كائن معتدل في حياتي الخاصة، أقول لك إن الجسد هو الفوضى. الجسد هو مكمن الخطر وهو أقوى من الروح التي تبدو أمامه شيئاً بسيطاً. تخطيتُ في المشهد المذكور الحدود المرسومة بين الأجساد لأشير إلى خطورة الأمر.
عادة ما تكون الأشياء التي أكتب عنها محسوسة أكثر مما هي ذهنية، وعادة ما أحوّل ما أسمعه عن فانتازمات معينة إلى شحنة شعورية قوية، أتملكّها كراوٍ، واستعملها كتابةً.

«أنا لست أديباً» جملة ترددها في أكثر من مقابلة ومناسبة. لماذا تنفي عما تكتبه صفة الأدب؟ هل الجرأة تخرجنا من الأدب؟
ــــ الجرأة أمر نسبي، ولا أعرف هل يكون الروائي جريئاً لو أنه كتب مشاعر فعلية و«مخجلة». الجرأة يجب أن «تُصنَّع» وإلّا فلا فائدة منها. سمّى العربُ القدماء الشعر والنثر «الصناعتين». أقصد بالأديب، الكاتبَ الباحثَ عن الكلام الجميل، الذي يسعى وراء الصُوَر التي تُعجِب، والذي يهوى الاستعراض اللغوي. أما كتبي، فلا يعطيها الأب لابنته لتقرأها كي تتحسن لغتها. أكتب أشياء مزعجة وأُسمّي كتابتي «الكتابة الدنيا» بخلاف ما أسمّيه الرواية «الفصحى» التي تُعلَّم في المدارس، أو تُقرأ بفخر في الأمكنة العامة، ويستحق الأديب على كتابتها أو قراءتها تمثالاً يخلّد ذكراه في ما بعد.

هل سيصل العالم العربي إلى زمن يصنع فيه تمثالاً لمن يكتب «خارج الأدب» كما تقول، كما فعلت فرنسا مع الماركي دو ساد مثلاً، وماذا تقول للأهل الذين يخبئون رواياتك عن أعين أولادهم؟
ــــ لست داعية ولا أبشّر بشيء، ولكنني مقتنع بأنّ علينا أن ننفتح ليتسلَّح أولادنا، منذ صغرهم، بأدوات تعينهم على مجابهة الحياة.

ماذا تقول للروائيين الشبان، وهل من نصيحة لهم حول الكتابة؟
ــــ لست صاحب مدرسة في الكتابة أبشِّر بها. وإذا سألتَني لماذا تكتب أجيبك ببساطة: بماذا تريدني أن أعمل إذا لم أكتب؟ ليس لديّ نصيحة لهم. أتمنّى لهم فقط أن يكونوا أحراراً. ألّا يخافوا الحرّية. وبقدر ما ينتبه الإنسان إلى الحياة، تغتني كتابته.

هل الكتابة نقيض الموت؟
ــــ تضعني مرّةً أخرى في موقع الذي خبر الحياة حتى بلغ الحكمة. لكنْ بما أنّك سألت سأجرؤ على الإجابة. هل يُجابه الموت بغير النسيان؟ والنسيان يكون بكلّ شيء، بالكتابة والرياضة والصداقة والحب والبغضاء، وبالحرب... بكلّ شيء إلّا بانتظاره. أريد أن أختم هذه المقابلة بتكرار ما بدأتُ به، وهو أن ما أقوله عن روايتي هو قراءة لها أيضاً.