خليل النعيمي: بدوي في «الأنديز»

  • 0
  • ض
  • ض
خليل النعيمي: بدوي في «الأنديز»

لم يتخلَّ خليل النعيمي عن بداوته الأولى يوماً! هذا الروائي والطبيب السوري المقيم في باريس منذ عقود، ما زال يتفيأ دفء شمس صحراء الجزيرة السورية حتى لو كان على بعد آلاف الأميال، يتأمل عجائب المخلوقات في أعلى قمم جبال الأنديز. رحّالة من طراز خاص، خبر جغرافيات مختلفة، متشمماً بأنفه البدوي رائحة زعفران الكوكب، لتتسلّل مفردات بدوية إلى معجم اللحظة الراهنة، منحوتة بغرابة في تفسير متاهة الكائن بعيداً عن المشيمة الأم. هذا «عوليس» آخر، يستحضر دمشق وشمسها وبساتينها، كما لو أنها إيثاكا مستحيلة وقصيّة، فكلما اجتاز مسافة أبعد بين القارات، تبزغ شمس البيئة الأولى. سيهتف، مستعيراً صوت أبيه، من عمق الصحراء «اشعلوا النار. اشعلوا النار»، مجابهاً وقائع الظلمة ووحشة الأمكنة وقسوة الحنين. كأنه لم يغادر حناجر الرعاة، واكتشافات الأقدام الحافية والخشنة، وهي تجوس طبقات السراب: «صرتُ أحبُّ أن أضيع في المتاهات الكونية التي تجعل الكائن لا يشعر إلا بضآلته. تجرّده من أسطورته المحليّة». مثل هذا الاعتراف سنجده في متن آخر كتبه في أدب الرحلة «الصقر على الصبّار» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ــــ بيروت). هذه المرّة، يستعير أسطورة مكسيكية في استعادة مشاهداته في بلدان أميركا اللاتينية: التشيلي، والأرجنتين، والمكسيك، والبيرو، «تلك التي تظللها جبال الأنديز بسحرها وغموضها وهوائها. وسوف تحضر أطياف نيرودا وبورخيس وساراماغو وبيسوا كجزء من الأسطورة المرتحلة: «أمشي بأبهة، متمتعاً بروائح الكون، وبمشاهده الحسيّة. أكتشف عالماً آخر لا علاقة له بالمبادئ العتيقة، ولا بالنظريات البائسة التي حشونا بها، لا يوحي بالإحباط، ولا يعيق المشاعر عن الانفلات» يقول. اكتشاف هذا البهاء الروحي في متاحف سانتياغو أو مقاهي شوارع بوينس آيرس، أو أساطير الأزتيك، يمنح الغريب طمأنينة، لطالما افتقدها في بلدانٍ أخرى، فههنا تتفتح «جغرافيا الأحاسيس» على مهل. في الجزء الجنوبي من الكوكب الذي لا يشبه شماله، سيرتطم الروائي الجوّال بحياة ملطّخة بالأساطير والحضارات القديمة، وروعة البشر المنسيين، وكيف يخلع العابر جلده القديم ليكتشف كينونته على نحوٍ آخر، إلى حدّ أن يقول متحسّراً «بيوتنا تكاد تكون أضرحة، وهي هنا جِنان». ما كتبه خليل النعيمي قبلاً، في «مخيّلة الأمكنة»، و«الطريق إلى قونية»، و«قراءة العالم» ينطوي على روح متوثّبة في اكتشاف الآخر، وتفكيك ألغاز الأمكنة والبشر والموجودات، بسرديات تعتني بقدرة الحواس على تخزين مشهديات الألفة البشرية، وعماء ما كنّا فيه قبل أن تطأ أقدامنا أرض الآخرين، إذ لا يستقيم وجود الكائن ولا يغدو لحياته معنى إلا بالسفر لترميم تاريخه الشخصيّ أولاً، وذلك بالقطيعة مع الذات ومعطياتها القديمة التي ستبدو مهترئة «ما أن يتجاوز عتبة بابه». لا مسافة مرئية هنا، بين تطلّعات الروائي وسرديات الرحّالة، ما يجمعهما في فضاءٍ واحد، روح ذلك البدوي الذي غادر ظعن القبيلة ذات يومٍ بعيد، من دون أن ينسى وشومها، وطعم حليبها، ونداءات ليالي صحرائها المُقمرة.

0 تعليق

التعليقات