جاء في قصيدة للشماخ بن ضرار:وماءٍ قد وردتُ لوصل أروى
عليه الطير كالورق اللّجين
ذعرتُ به القطا ونفيتُ عنه
مقام الذّئب كالرّجل اللّعـين
وقد اختلف حول ما هو «الرجل اللعين» في البيت الثاني. والغالبية على أنه الرجل الطريد من قبيلته: «قال شارح الديوان: أي: ذعرتُ القطا بذلك الماء، ونفيتُ عن ذلك الماء مقام الذئب، أي: وردت الماء فوجدت الذئب عليه فنحّيته عنه، أراد مقام الذئب كالرجل اللعين المنفيّ المقصى. فاللعين على هذا بمعنى الطريد، وهو وصف للرجل، وهو ما ذهب إليه ابن قتيبة في «أبيات المعاني». قال: «اللعين المطرود، وهو الذي خلعه أهله لكثرة جناياته. وقال بعض فضلاء العجم... اللعين: المطرود الذي يلعنه كلّ أحد ولا يؤويه، أي: هذا الذئب خليعٌ لا مأوى له كالرجل اللعين» (البغدادي، خزانة الأدب). ويؤكد «اللسان» هذا الاستخلاص: «أَراد مقام الذئب اللَّعِين الطَّرِيد كالرجل... والرجل اللعين لا يزال مُنْتَبِذاً عن الناس، شبَّه الذئبَ به» (لسان العرب).
بذا، فقد أذعر الشماخ القطا عن الماء فهربت طائرة، وطرد الذئب عنه كما يطرد الرجل الخليع من قبيلته.

«المسيح على جبل الزيتون» للفرنسي بول غوغان (زيت على كانفاس ـــ 73×92 سنتم ــ 1889)

أما أبو عبيد البكري، فقد زاد: «كان الرجل في الجاهلية إذا غدر وأخفر الذمة جعل له مثالٌ من طين ونصب، وقيل: ألا إنّ فلاناً قد غدر فالعنوه... فالرجل اللعين هو هذا التمثال» (البغدادي، خزانة الأدب). ورغم غرابة ما جاء به أبو عبيدة، فلا يستطيع الواحد أن يرفضه وأن يسقطه من الحساب، رغم أنه لا يستطيع قبوله بالصيغة التي أوردها.
وفي كل حال، فأنا لا أتفق مع رأي الغالبية. ذلك أن الطريد من قبيلته يدعى «الخليع» لا «اللعين». ولا يمكن وضع إشارة مساواة بين الاثنين إلا بالإكراه. وانطلاقاً من هذا، فأنا أرى أن الوحيد الذي قدم اقتراحاً جيداً لحل مسألة الرجل اللعين إنما هو الجوهري صاحب الصحاح في اللغة: «قال الجوهري: والرجل اللَّعِينُ شيء يُنصب وسط الزرع تُسْتَطْرد به الوحوش» (لسان العرب). وانطلاقاً من رأي الجوهري هذا، فالرجل اللعين هو ما نسميه الآن بـ «الفزاعة». أي أنه «خيال المقاثي» كما يقال عندنا أو «خيال المآتي» حسب اللهجة المصرية. والمقاثي مزارع القثاء من بطيخ وخيار وكوسا وبطيخ وشمام.
عليه، فقد أذعر الشماخ، بوروده الماء، طيور القطا والذئب كما لو أنه كان فزاعة، أي رجلاً لعيناً. بذا فـ «الرجل اللعين» وصف للشماخ ذاته لا للذئب. لقد شبه نفسه، لا الذئب، بالفزاعة، بالرجل اللعين. وقد أتى الشماخ إلى الماء فطرد الحيوانات كما تطرد الفزاعة الوحوش. عليه، فلدينا هنا تشبيه مميز وفريد جداً من الشماخ.
وإذا صح هذا، فالسؤال هو: لم سميت الفزاعة بالرجل اللعين؟ والجواب: أظن أن لهذا صلة ميثولوجية. ويمكن لي القول إن للفزاعة علاقة ما بالصلب. ولهذا فهي تأخذ شكل عودين متصالبين في كثير من الأحيان كما الصليب. كما أنها حين تكون دمية قش، تكون شكلاً قريباً من الصليب. يؤيد هذا أن اللعن في اللغة هو التعذيب: «اللَّعْنُ: التعذيب» (لسان العرب). يضيف اللسان: «اللَّعْنَة في القرآن: العذابُ. ولَعَنه الله يَلْعَنه لَعْناً: عذبه». بذا، فالرجل اللعين هو الرجل المعذب. وما هو المصلوب إن لم يكن معذباً؟ ووجود العذاب والتعذيب ينفي أن الرجل اللعين هو طريد القبيلة. وهذا يعيدنا إلى ما جاء به البكري حول تمثال الرجل اللعين: «جعل له مثالٌ من طين ونصب». بذا فالرجل اللعين ربما كان في الأصل تمثالاً من القش أو الطين، ثم اختصر إلى عودين متصالبين ألبسا قماشاً. وقد أورد جيمس فريزر قصصاً عديدة جداً عن دمى من قش وغيره تصلب أو تحرق في موسم محددة في السنة. وظني أن هذا كان يحدث في منطقتنا في عيد الانقلاب الخريفي، أي عندما «يصلّب الزيتون»، أي عند نضوجه في عيد الصليب. وأنا أعتقد أن عيد الصليب أبعد زمنياً بكثير من المسيحية. إنه العيد الذي يصلب فيه الرجل اللعين، أي عيد الرجل المعذب.
ومن المحتمل أن هذا الرجل اللعين على علاقة بطقس الذبيح الجاهلي، فالذبيح، مثل عبد الله جد النبي، هو طراز من الرجل اللعين، أي الرجل المعذب الذبيح. ويبدو لي أن طقس الذبيح كان يجري مع الاعتدال الخريفي، أو بعيده فوراً.
بناء على هذا، فقصة الرجل اللعين أو خيال المقاثي ليست قطعة قصة قليلة الشأن بل هي قصة مغروزة بعمق في طين الدين وطين الأسطورة.

حل لغز اسم النبي إدريس
ورد ذكر النبي إدريس مرتين في القرآن. الأولى في سورة مريم:
«واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً. ورفعناه مكاناً علياً» (مريم 57:56)
والثانية في سورة الأنبياء:
«وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلٌ من الصابرين» (الأنبياء 85)
وكما نعرف، فالمصادر العربية تساوي النبي إدريس بأخنوخ العبري- السرياني، وبهرمس: «أخنوخ... وهو النبي إدريس، عليه السلام، وهو هرمس الهرامس، المثلث بالنبوة والحكمة والملك» (العصامي، سمط النجوم العوالي). 
أما الاسم فغامض الاشتقاق. لكن بعض المصادر العربية مالت إلى افتراض أنه مأخوذ من الدرس بمعنى القراءة: «وإنما سمى إدريس لكثرة ما كان يدرس من كتب الله» (الصحاري، الأنساب). يضيف الشامي: «إدريس بالسريانية خنوخ. ومعناه كثير العبادة. وأما إدريس، فاسم أعجمي غير منصرف وقيل مشتق من الدرس والدراسة بمعنى الكتابة. وسمي به لكثرة ما درس من كتب الله عز وجل» (الصالحي الشامي، سبل الرشاد). وهكذا فرغم أن الاسم أعجمي فقد جرت محاولة اشتقاق اسمه من الفعل «درس».
عيد الصليب أبعد زمنياً من المسيحية. إنه العيد الذي يصلب فيه «الرجل اللعين»، أي عيد الرجل المعذب


نعتقد أن هذا التفسير غير صحيح، وأنه نبع من ارتباط إدريس بالقلم والكتابة: «وهو أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبسها» (النويري، نهاية الأرب). ومعروف أن هرمس وتحوت مرتبطان بالكتابة أيضاً. بالتالي، فقد افترض أن اسم إدريس يجب أن يكون قادماً من الجذر «درس» رغم الإقرار بأعجمية هذا الاسم. وقد شكك لغويون كبار بهذا الاشتقاق المفترض: «قيل: سُمي إدريس لكثرة دراسته كتاب الله عز وجل، وكان اسمه أخنوخ، وهو غير صحيح، لأنه لو كان أفعيلاً من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العَلَمية، فكان منصرفاً، فامتناعه من الصرف دليل العجمة» (الزمخشري، الكشاف). كما أن الصاغاني شنّ هجوماً عنيفاً على من قال بهذا الرأي: «قال الصاغاني مؤلف هذا الكتاب: هذا قول من يرمي الكلام على عواهنه، ويقول ما خَيَّلَتْ، كما يقولون إبليس من أبْلَسَ من رحمة الله. وإدريس لا يُعرَف اشتقاقه، فإنَّ الاشتقاق لِما يكونُ عربياً، وإدريس ليس بِعَرَبيّ، ولهذا لا يَنصَرِف وفيه العَجْمَة والتعريف» (الصاغاني، العبار الزاخر).
ورأيت في موقع إلكتروني من يعتقد أن هذا الاسم من أصل يوناني: «وأصل الاسم يوناني وينطق أندريانوس أو اندرياس» https://www.altkia.com وهذا افتراض لا دليل عليه أبداً.
ويبدو لنا أن أصل هذا الاسم مغطى بقشة صغيرة وأن إزاحة هذه القشة سيكشف لنا عن أصل هذا الاسم واشتقاقه. فهو ليس في الحقيقة إلا مختصراً عربياً للقب هرمس اليوناني. فهرمس يوصف في اليونانية بأنه تريسماغوستوس Trismegistus، أي: المثلث العظمة، أو المثلث العلم. أما عند العرب، فقد ترجم اسمه على أنه «هرمس المثلث النعم» (جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام). بالتالي، يمكن الافتراض أن الاسم إدريس هو في الأصل القسم الأول من لقب هرمس اليوناني ترِس Tris، أي المثلث، إشارة إلى عظمته المثلثة، أو حكمته المثلثة (النبوة، الحكمة، الملك). وكل ما جرى هو أن التاء اليونانية حولت إلى دال عربية (درس)، ثم أضيفت همزة متحركة في البداية لأن العربية لا تبدأ بساكن، ثم مدت حركة الراء فصرنا مع «إدريس».
بناء عليه، ففي الوقت الذي أخطأت فيه المصادر العربية في فهم معنى اسم إدريس وأصله، فإنها لم تكن مخطئة أبداً في مماهاته مع هرمس. فاسمه العربي، أو المعرب، هو الدليل الحاسم على أنه هو هرمس ذاته.

* شاعر فلسطيني