منذ 1992، مع «عُزلة الّذهب»، لم تُنْشِئ قصائدكَ في شكل كتاب شعري للنشر. ألِأنَّ مشروعك الإبداعي عرفَ انعطافةً جديدة — لا يغيب عنها الشعر والشعري — مع مُقَطَّعَاتِ النثر الفني المفتوح، بدايةً بـ «عين السراب» في 2000؟- بعد كتاب «عزلة الذهب»، اتّجهت الكتابة في اتّجاه النثر المفتوح على الشعر والتأمّل الفلسفي والسيرة الذاتية، في سياق أسلوب يطمح إلى إلغاء الفواصل بين الأنواع الأدبيّة. إنّها كتابة حرّة لكنّها تتحرّك في فضاء شعري. في هذا الإطار، أنجزت الكتب الثلاثة: «عين السراب»، «رسالة إلى الأختين» و«مدينة في السماء». ولقد عدتُ، الآن، في مجموعتي الشعريّة الأخيرة «ما سوف يبقى»، إلى ذاك النوع من كتابة الشعر.

كانت قصيدتك تنزع دوماً نحو التكثيف والوجازة، بعد تجاوز معمارها، إلّا فيما نَدُرَ، لحدود صفحة من القطع المتوسط؛ وعندما تتجاوز هذه الحدود، فإنها تتشظى إلى مقاطع مُرَقَّمَة، أي — في آخر المطاف — قصائد في قصيدة واحدة. هل هذه القيمة المهيمنة في شعرك، وعي جمالي بأن القصيدة بالضرورة وجيزة؟ هل تبدأ مسودات دواوينك طويلة ثم تهوي عليها بِمِشْرَطِ الحذف والاختزال؟
في «ما سوف يبقى»، كما في «عزلة الذهب»، كنت أسعى إلى أقصى حدود الاختزال. إلى اللحظة التي تمّحي فيها القصيدة نفسها ويبقى أثرها ونبضها العميق. القبض على الإيقاع الذي يبقى بعد مرور العاصفة. وهي، حين تأتي، تكون محمّلة أيضاً بما قرأناه وشاهدناه واستمعنا إليه. بعض النصوص تكون طافحة بالموسيقى، وبعضها الآخر بالألوان. كنت دائماً أعتبر أنّ الكلمات وحدها لا تكفي لكتابة الشعر. أحياناً تكون الكلمات عائقاً للإفصاح عمّا نريد، لأننا نريد الذهاب أبعد منها وأبعد ممّا تستطيع قوله. لذلك نشعر، في بعض الأحيان، بأنها تنوء بما نحمّلها إيّاه. وربّما هذا ما دفع المتصوّف والشاعر الألماني أنجلوس سيليسيوس إلى القول: «أتوقّف هنا يا صديقي، لكن، إذا أردتَ أن تتابع القراءة، فاذهب وصِر أنت نفسك، الكتابة والجوهر».



تبدو بعض قصائد ديوانك الجديد مكتوبة بيدِكَ اليسرى، من خلال تراكيب تخلخل بنية الجملة العربية. أهي ضريبة التعدّد اللساني والثقافي والحَوم بين اللغات؟
- اللغة كائن حيّ متحرّك وليست مجرّد وعاء لنقل الأحاسيس والأفكار. إنها جزء لا يتجزّأ من الثقافة نفسها. والتعاطي معها يعكس أيضاً طريقة في التفكير، ويعكس رؤيتنا وتطلّعاتنا وحركة أجسادنا ووجودنا. في العالم العربي، وفي غياب إصلاح حقيقي في اللغة كي تتماشى مع تحوّلات العصر، نتلهّى بتفاصيل ونوافل تأخذ جزءاً كبيراً من جهدنا واهتمامنا. فاللغة العربية التي تتقنها اليوم أقلّية تضؤل أكثر فأكثر، تصبح عند البعض أحجيات وألغازاً وتساؤلات لا جدوى منها. كأن نَحار أين نضع الهمزة، فوق الألِف أم تحت الألف، أو أن نستعمل «نبتعد من» أو «نبتعد عن»، وأشياء من هذا النّوع. نتعاطى مع اللغة تماماً كأنها نصّ ديني. في القرن التاسع عشر، كانت ترجمات التوراة إلى اللغة العربية محطّة فاصلة في التعاطي مع اللغة العربية، ولا يمكن العودة إلى ما سبقها، خصوصاً بالنسبة إلى الذين يتعاملون مع لغات عدّة ويتجوّلون بينها كمن ينتقل بين غُرَف عدّة داخل بيت واحد. لا يمكن أن تعيش لغة اليوم من دون أن تنفتح على اللغات الأخرى، كما الحال في مجالات الإبداع كلّها، مع انفتاح الأزمنة والأمكنة على بعضها بعضاً. كأن نرى أثر النحت المصري القديم في أعمال آدم حنين وهنري مور، وأعمال بيار بونار في لوحات شفيق عبّود. في عصر النهضة، وعى الإصلاحيّون العرب مشكلة اللغة العربية وتقصيرها في التعبير عن المعاني الحضارية وعن المعارف والعلوم المستحدثة، وأدركوا أنه يستحيل نقل هذه المعاني والمعارف من دون استيعابها. ولا تزال الأسئلة مطروحة حتى اليوم، وبإلحاح، حول علاقتنا باللغة، تأليفاً وترجمة، وحول استيعابنا مفاهيم الحداثة.

يبدو أنّ خراب برج بابل كان أكثر إثماراً من تحدّي بلوغه السماء.
- التعدّد الألسني ضرورة لا بدّ منه للحفاظ على التنوّع وتجنّب الوقوع في الفكر الواحد والحقيقة المطلقة الواحدة. عبر اللغة الإنكليزية، تحاول أميركا أن تفرض ثقافتها وتوجّهاتها أينما كان، واللغة بالنسبة إليها، خصوصاً كما تجلّت في صناعة السينما في هوليوود، كانت سلاحاً أمضى من القنبلة النوويّة. أمّا تحدّي بلوغ السماء، فهو تحدّ قديم قِدَم وجود الإنسان على الأرض. الشاعرة اليونانية سافو التي عاشت بين القرنين السابع والسادس قبل الميلاد تمنّت لو تلمس السماء بذراعيها. ما أروع هذا التمنّي! إنّه التوق إلى الصعود والارتقاء. إلى ما يتجاوز العادي والمألوف في اتّجاه المجهول والمستحيل. إنّه حنين غامض إلى ما هو أبعد وأعمق. والكتابة، ومعها القراءة بالطبع، جزء من هذا الإبحار.



قد يبدو سؤالي متجاوَزاً أو محافِظاً، وفق البعض: هل ثمة وعي نظري، جمالي، إيقاعي لديك في خِيَارَيْكَ التَّنْوِيعِيَّيْنِ، في هذا الديوان، بين القصيدة الحرة وقصيدة النثر كما كتبها بودلير ورامبو وغيرهما من الغربيين؟
- في «رسالة إلى الأختين»، مثلاً، هناك 22 فصلاً تتوزّع كلّها بين متن وهامش. المتن نثر شعري والهامش قصيدة نثرية. لمَ لا، طالما أنّ الهاجس الأساسي من وراء هذه الكتابة لا ينحصر فقط في الأسلوب. مرّات، يحاول الكاتب أن يستخرج من الكلمات أصواتها وموسيقاها العميقة فحسب.

في القسم الأول من الديوان، تحضر، تلميحاً ومجازاً، مأساة ابتلاع بحر إيجة للاجئين السوريين. كان شعرك، دوماً، ذا نبرة هادئة، متخففة من صخب العالم خارجَ الذات. أهو هول المأساة ورفض أن يتاجِرَ بها أحد كقضية إنسانية؟
- لا أفهم كيف يستطيع الشاعر الذي يتأثّر لرؤية عصفور أن يغفل عن المجازر التي تحصد حوله، الكبار والصغار، بوتيرة لا تهدأ منذ سنوات. هذا لا يعني أنه مطالب بكتابة قصائد عن هذا الموضوع، بل أن لا يغطّي الظلم بصمته أو أن يفاضل بين مستبدّ وآخر. الهاربون من أقدارهم يرمون أنفسهم في البحر بحثاً عن خلاص، منهم من يصل إلى الضفّة الأخرى ومنهم من لا يصل. والذين لم يصلوا كُثُر، وهذا ما حوَّلَ البحر الأبيض المتوسّط، في العقود الأخيرة، إلى أكبر مقبرة بحريّة في التاريخ. لكن، ما يجري اليوم، سبق أن جرى في الماضي. إثر اكتشاف كولمبس لأميركا، بدأت تجارة العبيد بين إفريقيا وأميركا. كانت نسبة الوفيات مرتفعة جداً بسبب سوء المعاملة والأمراض التي تفتك بالسود أثناء الرحلة الطويلة، وكان متعهّدوها يرمون الجثث والمرضى في آن واحد. هكذا اقتربتُ من الموضوع، كما نعيشه في الوقت الراهن، لكنّني وضعتُ الغَرَق في إطاره الإنسانيّ العامّ.



ما زال الشاعر شاهِداً يحتاجُ لمن يَشْهَدُ له [تسيلان]؟
- أختم مجموعتي الشعرية الجديدة، «ما سوف يبقى»، بالعبارة الآتية: «لا أدري لماذا لم يُغادر الشعراءُ بعدُ/ مع الطيورِ المغادرة!». هناك محاولة دؤوبة لقتل الشعر في العالم، ليس الشعر بما هو كلمات فقط، بل الشعر بما هو جوهر، الشعر الموجود حولنا في الكائنات والأشياء، المرئيّ منها وغير المرئيّ.

الباب ما قبل الأخير من الديوان، تُعَنْوِنُهُ بـ «موسيقى مَرئيَّة»، وتفتتحه بِنُتْفَةٍ لأبي نواس، تقول: «أموتُ ولا تدري وأنتَ قَتَلتَني..». ما درجة صلة قصيدتك الحديثة بشاعر كلاسيكي، يمثل في عصره الحداثة الأولى، مثل أبي نواس؟ وما صلة تقاطع حاستَي السمع والنظر، الظاهرة في عنوان الباب، بدعوة بودلير ورامبو إلى استثمار خلخلة الحواس كحالة ورافِد شعريين؟
- إمّا «خلخلة الحواسّ» أو الركون إلى ثبات قاتل. أمّا خياري لأبي نواس فلم يكن اعتباطيّاً وحداثة هذا الشاعر لا تخضع لزمن. أفكّر، في هذه اللحظة، في ما كتبه بودلير في قصيدته النثريّة وعنوانها «اسكروا» التي نُشرت في كتابه «سأَم باريس» عام 1869، بعد سنتين على وفاته. أقرأ تلك القصيدة وأسمع صداها في ما كتبه أبو نواس قبل أكثر من ألف عام. الحداثة لا تخضع لزمن بل هي عابرة للأزمنة. نقرأ أحياناً نصوصاً قديمة تكون أكثر حداثة من نصوص نكتبها الآن. وهذا لا يطالعنا فقط في الكتابة، بل أيضاً في مجالات الإبداع المختلفة، وخصوصاً في الفنّ، رسماً ونحتاً. في متحف «اللوفر» أو المتحف البريطاني، أو «الميتروبوليتان» في نيويورك، أجد نفسي، أحياناً، أمام منحوتات وأعمال تنضح بحداثة مذهلة، كأنها آتية من المستقبل لا من الماضي.



رامبو مرة أخرى: التَّنَافُذُ النصي مثير للانتباه بين قصيدتك «تَقَدُّم!» وقصيدة رامبو «ديمقراطية»، معجماً وثيماتٍ. رامبو الذي كتبتَ عنه إحدى أهم الدراسات عربياً، في «تفّاحة الفردَوس» [2006]. يبدو أن كلّ من قرأ رامبو بالفرنسية أصابه منه مَسّ.
- لا أظنّ أنّ ثمّة شاعراً في العالم رصد التقنية والعلم كما رصدهما رامبو في شعره. ما تطرّق إليه بقيّة الشعراء، ومنهم والت ويتمان، يظلّ مجرّد إشارة عابرة بالمقارنة مع ما كتبه رامبو حول هذا الموضوع والطريقة التي أثاره بها. ولشدّة نفاذ ما كتبه، تصبح أيّ كتابة أخرى، مهما ابتعدَت عنه، جزءاً من تلك المجرّة الهائلة، البعيدة جداً لكنّها حاضرة. ولا ينطبق ذلك فقط على مستوى الموضوعات والمقولات، وإنّما أيضاً على مستوى الكلمات نفسها. هل يمكن أن نتلفّظ بكلمة «ملاك» أو بكلمة «وردة» مثلاً، من دون أن يكون ريلكه حاضراً؟ عندما كتب رامبو قصيدته «ديموقراطية»، لم تكن الثورة العلمية قد حقّقت ما تحقّق على هذا الصعيد في القرن العشرين وما يتحقّق اليوم. هنا تقتضي الإشارة إلى أنّ رامبو الذي كان شاهداً على الإنجازات العلمية في القرن التاسع عشر، التفت في شعره إلى هذا الموضوع من خلال رؤية نافذة ذهبت أبعد من الزمن الذي كان يعاصره. غير أنّ التطوّر العلمي والتكنولوجي غير المسبوق الذي يتغيّر معه الآن مسار البشرية جمعاء، يضعنا أمام تحديات كبيرة ويجعلنا نلاحظ أنّ ثمة تفاوتاً متزايداً بين الثورة العلمية من جهة، وضمور النزعة الإنسانية من جهة ثانية. أي أنّ التقدّم العلمي لم يواكبه تقدّم على المستوى الإنساني، فلا تزال البشرية، كما الحال منذ ألوف السنين، غارقة في نوازع الحروب والاستئثار والسيطرة والاستبداد. وهذا ما دفع عدداً من العلماء، ومنهم عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران، إلى القول إنّ البشرية، على المستوى الإنساني، لا تزال أسيرة عصور بدائية قديمة. هذه البشرية المهدّدة اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، والتي لم تعد صيغة الأوطان والقوميّات قادرة وحدها على معالجة الأزمات الكبرى التي تمسّ جميع البشر وتقتضي حلولاً شاملة، على مستوى كونيّ. من تلك الأزمات الاحتباس الحراري، التلوّث، تدمير غابة الأمازون، ذوبان الجليد القطبي، وكلّ ما يترتّب على ذلك من نتائج تطول الحياة على الأرض بأكملها. نسبة كبيرة من حكّام العالم اليوم نتاج الشعبوية والأمّية والجهل، معهم تزداد استباحة الأرض ومن عليها، وتتضاعف نسبة العنف والابتذال والبشاعة. أن توضع بين أيديهم إمكانات مادية وتكنولوجية هائلة، يجعلنا نعرف في أيّ اتجاه يمضي الآن هذا الكوكب.



كيفَ ترى التخطيطات التي نَمْنَمَ بها الفنان صفاء سالم إسكندر مجموعة من قصائدك؟
- أتقدّم بالشكر للشاعر والفنّان صفاء سالم اسكندر على مبادرته الجميلة التي تضع الشعر والتشكيل الفنّي، وبأيّ حساسية مرهفة، في مركب واحد تحت نور الشمس.

ما جديد إصداراتك في الأمد القريب؟ وهل ثمة مشاريع متوسطة وطويلة الأمد؟
ستصدر قريباً عن «مؤسسة بتانة الثقافية» في القاهرة الطبعة الثانية المنقّحة من كتاب «الأحلام المشرقيّة/ بورخس في متاهات ألف ليلة وليلة». وكان هذا الكتاب قد صدر في عام 1996 عن «دار النهار» في بيروت. هناك أيضاً كتاب آخر سيصدر مع حلول الربيع عن «دار الرافدين»، هو كناية عن حوار طويل يجريه معي الشاعر العراقي علي محمود خضيّر الذي سبق له أن أعدّ وقدّم الأعمال الشعريّة الكاملة لبسّام حجار، ونُشرت عن الدار نفسها. الكتاب الذي نعمل عليه حاليّاً يتحدّث عن مساري الأدبي والثقافي بشكل عامّ، لكن من خلال الغوص في قلب بعض السجالات الثقافية، شرقاً وغرباً، والكتب التي طبعتني واللوحات الفنية التي أثّرت في رؤيتي للأشياء، والموسيقى المرئيّة التي سبق أن أشرتَ إليها في سؤالك. تلك الموسيقى التي تلامس الحواسّ كلّها معاً. هناك أيضاً الحرب والسلم، الأسفار والحدائق وحال المنفى غير المرتبط بمكان، وذلك كلّه بأسلوب يجمع بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي. إضافة إلى ذلك، يتضمّن الكتاب ملحقاً خاصاً يشتمل على نبذات من نصوص غير منشورة ومن رسائل ولوحات وصور، ومنها ما يتعلّق بكتّاب وفنانين عرفتهم أثناء إقامتي الطويلة في الخارج، لا سيّما في باريس ونيويورك وأميركا اللاتينيّة.
لا أظنّ أنّ ثمّة شاعراً في العالم رصد التقنية والعلم كما رصدهما رامبو في شعره


في حوار معك، يُذَيِّلُ الطبعة الجزائرية مزدوجة اللسان من «عزلة الذهب»، تعبّر عن خوفك من اختفاء خمريات أبي نواس وغفران المعري. أما زلتَ مهجوساً بهذا الخوف؟ ألم تَتْعَبْ من الرهان على الجمال وسطَ طوفان تَسْلِيعِ كلّ شيء؟
نحاول أن نعطي معنى لحياتنا من خلال الالتفات إلى الجمال، مع أننا نعرف أنّ قسماً كبيراً من هذا الجمال، كان ثمن الوصول إليه، عبر التاريخ، دماءً كثيرة وظلماً كبيراً. وهذا ما حاولت أن أكشف عنه في كتابي «مدينة في السماء» الذي صدر أيضاً عن «دار التنوير» في بيروت، وكنتُ قد كتبته إثر تجربتي في منظمة الأمم المتحدة في نيويورك، وعملي هناك بصفتي مستشاراً ثقافياً، بين عامي 2006 و2007. الرأسمال المنتصر لا يعنيه إلا الربح وتسليع كلّ شيء بما في ذلك مشاعر البشر وأحاسيسهم وتطلّعاتهم. صحيح أنّ الجمال، بما هو محصّلة الإبداع بشكل عام، لا يشكّل سوى ومضة داخل فسحة شاسعة من الظلام، لكن، ليس أمامنا إلّا أن نزداد تمسُّكاً بلحظة الضوء هذه والتي لولاها لا معنى لشيء على الإطلاق.



منتخبات شعرية
عيسى مخلوف: ما سَوفَ يَبقى
تخطيط ونَمْنَمَةُ: صفاء سالم إسكندر


1. غُرَباء
لم يَكُن ثمّة ما يُشيرُ إلى أنَّنا غُرَباء
كنَّا نَسيرُ معَ غَيرِنا في الشَّارع
ومع ذلك عَرَفُونا.
كنَّا نُهروِلُ خائفين
كنِقاطِ ماءٍ تَدلِف من السُّطوح.
ربَّما رأوا في عُيُونِنا
أولئكَ الّذين كانوا مَعَنا
وغَرِقوا.

2. عُيون مفتوحة تحت الجُفون
نَسُوا ساعاتِ أيديهم على الطَّاولاتِ الواطئة
قُربَ الأَسِرَّة
وسافروا على عَجَل.
حين غَرِقَت بهم المَراكبُ المطَّاط
ظَلَّت عيونُهم مفتوحةً تحتَ الجفون.
لم تَسِل منهم قَطرةُ دمٍ
نامَت أحلامُهم وتأَرجَحَت على الموج
هل هو قلبُ البحر
ما يَتناهى إلينا
أم قلوبُ الغَرقى
في خَفَقانِها الأَخير؟

3. تِيه
لا أَنسباء للّذين أَضاعوا مفاتيحَ العودة
ولا بيوت
يَتَسلَّقونَ الضَّوءَ كالعصافير الهائمة
في الجِهةِ المُقابلة لأَرواحٍ
تَقطُرُ دمًا.

قُل لنا يا صُبحُ ما مَسارُكَ
وفي أَيِّ اتِّجاهٍ سيَمضي الهاربونَ
من شَفَراتِ الذِّئاب؟

4. لا أثرَ للغيمة
لا أثرَ للغيمةِ المُنسابةِ بينَ الأَجراس.
أنفاسُ مَن هذه الّتي تَتَصاعَدُ
كلَّ صباحٍ
فوقَ البُحَيرة؟
نُوَدِّعُ الحربَ التي طالَت
نتركُ الثّأرَ جانبًا
على الطُرُقات النَدِيَّة
مع الأَوراقِ اليابسةِ الّتي، بعدَ قليل،
سَتَكنُسُها الرِّيح.

5. حُطام
تحتَ أَيِّ سقفٍ يَندفعُ سُمُّ الحَيَّة
حارسة أحجارِ المَعبد المُهَدَّم
وسَماواتِ الرُّعب؟
تحتَ أيِّ سقف، يَخِرُّ ثَورُ المُصارَعة
الّذي زُجَّ عَنوةً في الصِّراع؟
فوق أيِّ حُطامٍ يَتَلألأُ البَرق؟

6. صمتُ الرُّخام
الّذي أَوقَدَ نجمةً ليبدِّدَ خوفَنا
من العَتَمَةِ الكُبرى
زادَنا خوفًا
كشَفَ الغِطاءَ عن السَّماء.
الذي فتحَ الأجفانَ وأَطْبَقَها
وتركَ للأغصانِ حرّيّةَ التنقُّلِ في الهواء
يتماهى مع خَفقِ جَناحٍ
عِنْدَ حدودِ اللّيلِ والنَّهار
يَحومُ حولَ النّائمينَ
في صمتِ الرُّخام.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

7. تَقَدُّم!
لا تزال الصَّواري مرفوعةً في قاعِ البحر
منذ المعركةِ الأخيرة.
السِّلاحُ الفَتَّاك يُلهبُ المخيِّلة
ويَخترقُ الرُّوح
يَنزعُ الأُفُقَ من مَكانِه.
أَكمِلي زَحفَكِ أيَّتها العلوم!

8. العائدون
العائدون مساءً إلى بيوتهم
يَجمعونَ حطبَ السَّاعاتِ الّتي انقَضَت
كلُّ شيء ساكنٌ حتّى الهواء
السّتائرُ مكانَها واللّوحاتُ المعلَّقة على الجدران
والكتُبُ وهَديرُ حروفها المكتوم
العائدون إلى بيوتهم
يَدلُقون الماءَ في أُصُصِ الزَّهر
يتفقّدون أجسادَهم ودقّاتِ القلوب.

9. فَوضى
تتساقطُ الأمطارُ من نورِ الصَّباح
قَوسُ القُزَحِ حبلُ غسيلِ الغيوم
أنفاسُ المُتعَبين في المنازلِ المُظلمة
حيث الرِّياحُ تَلطِمُ الوَسائد
وبُخارُ رطوبةِ الأرض
يَعجِنُ الذِّكريات.

10. المُغَنِّي
مَن سَيُغَنِّي لنا
إذا غابَ المُغَنِّي؟
مَن سَيُجَوِّدُ الذِّكرى
ويَلعبُ بِسُبحَةِ الأحلام
على مرأى من قمرٍ
مُتَّكئٍ على الأُفق
يَحتَسي الكأسَ الأخيرة؟

11. احتفال
سنَفتحُ الخزائنَ على فِراء المعاطف
على الأَحزِمَةِ والأَحذيَةِ الجِلد
سنرتدي، اللّيلةَ، الحيواناتِ المقتولة
قبلَ الذَّهابِ إلى الاحتفال.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

12. نِعالُ الخريف
الأَوراقُ المتساقطة نِعالُ الخريف
المتَّجهة إلى أوَّلِ مُنحدَر ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
الجَمادُ النَّائمُ في سَهوِ الغروب
وبَريقِ زُجاجهِ المَكسور
سفينةٌ راسِيةٌ بينَ أرضٍ وسماء
في أمتعتها شَظايا نُجومٍ
ورغباتٌ تَقتربُ من نهايتها
بسَعادةِ مَن أَحبَّ
حتَّى الرَّمَقِ الأَخير.

13. مَقاسات
كيف تُقاسُ الرَّغباتُ والعواطف،
وَقْعُ القُبُلاتِ على الجروح؟
كيف تُقاسُ الأجسادُ الضّئيلة
وأعضاؤها المبعثرة؟
أمامَ الموت، يصبحُ الجبلُ كَومَةَ تُراب
والشّجرةُ نسمةً تبتسمُ للأطفال وهم يلعبون.
نَقرةٌ واحدةٌ على البيانو وتَنهَمِرُ الأَمطار،
تتبدَّدُ الأحلامُ،
صديقةُ الماضين وراءَ شموسٍ تَطيرُ
كحَمامٍ مَذبوح.

14. أَوهامُ الصَّيف
أنتِ الوجهُ المُضاءُ في الغرفة المظلمة، سَرابُ الصَّحارى والتُّخوم، زنبقةُ الفصولِ المتناثرة فوق الأشلاء.

من الأَوهامِ الجميلةِ أيضًا: آلةُ قياسِ الوقت، ساعةُ النَّصرِ لحظةَ انتهاءِ الحرب والتحقُّقِ من هزيمة الأَعداء، الأَطرافُ الاصطناعيَّة لمُقَطَّعي الأوصال، الجلوسُ عند حافّة نهر وتأمُّلُ مياهه الجارية، اللّيلة الأولى بعد الألف، استخلاصُ الجمال من الحزن في الكونشرتو الثالثة والعشرين لموزار، وُعُودُ الذَّهَب والأحجارِ الكريمة في باطنِ الأرض، كلُّ ما يَسطَعُ ويَلمَع بما فيه الملاكُ المُجَنَّح والبَهلَوانُ السَّائرُ فوق شَريطٍ من الأَجراسِ الملوَّنة والمصابيحِ المُضاءةِ في وضَحِ النَّهار.

15. كَونٌ آخر
الكونُ الآخر قصيدةٌ يكتبُها الشُّعراء.
مرّةً ثانية، أرى أبولينير يَعبُرُ الجسرَ
إلى الضِّفَّةِ الأُخرى
وفي خاطرِهِ تتحرَّكُ قُبلةٌ
تَطوي جَناحَيها وتتساقطُ
كنُدَفِ الثَّلج.

16. أَشرِعَةُ الشَّمس
I
يَسكُبُ الوردُ عطرَه في الحديقة
منتظرًا السَّيِّدَ الموت.
أشرِعةُ الشَّمسِ غيومٌ
من أَبيضِ المناديل.

II
الّذي ينامُ كلَّ يوم ويَستيقظ
لم يَصحُ هذا الصَّباح
قيل: قبل أن يَدخُلَ غرفتَه ويُطفئَ النُّور،
وقفَ طويلًا على الشُّرفةِ
رافعًا رأسه عاليًا.

III
ثِيابُنا المُعَلَّقة في الخَزائن
قبلَ أَن نَرتَديها
نَنفُضُ عنها الموت
كلَّ صباح.

IV
الأَحياءُ هم الّذين يَتَلَمَّسونَ أجسادَهم لا الموتى
وينظرون إلى عيونهم في المرايا المُعتمة
وحدهم يطلبونَ النَّجدة
لا الّذين بلَغوا الصَّمت
اللّغة الوحيدة التي تَفهَمُها أزهارُ الحقول.

17. أَسرار
ما لا يَتَّخِذ شكلًا
ما لا يتحوَّل رمادًا
يبقى.
ستبقى دائمًا
اللّحظةُ التي جمَعَتنا.
غدًا،
نُودِعُ عُروقَ الرُّخام أَسرارَنا.
غداً، تتنزّه الحديقة
في فَوَحانِ اللّيمون.

18. الإشارة الأولى
النُّجوم
مَسامير مُلتمِعَة
لتثبيتِ الفَضاء،
كنوزٌ من النِّسيان
ومراجيحُ أَحلامِنا.

فوقَ رَبوَة، قُربَ شجرةِ الحَور،
ينتظرُ الفَجرُ الإشارةَ الأولى.

19. أَنهار
كانتِ الأَنهارُ الجوفيّةُ واحدةً في الأرضِ والجسد
قبلَ أن تُصبحَ صدًى لعَطَشٍ مُزمِن
للعَطَشِ أيضًا ينابيعُه وحِجارتُه الكريمة
الصَّحراءُ مَداه
وصَمتٌ بلا حدود.

20. شُعلةُ الماوراء
ذاتَ غُروب، مرَّ شُعاعٌ فوق وَرَقَةِ البُرديّ. اقتفى المهندسُ أثرَه وصولًا إلى المِسَلَّةِ الأُولى. بعد هُنَيهَة، غابَ الشُّعاع وظلَّت في مكانها المِسَلَّة. الخطوطُ تَحرَّكَت، تَمايلَت يَمنةً ويَسرة. صعودًا ونزولًا. القاعدةُ المربَّعة اتَّسَعَت قليلًا وارتفعَت. اقتربَت الجوانبُ الأربعة من بعضها بعضًا بقَدرِ ما كانت تَرتَقي الضَّوءَ والهواء.

رفعَ المهندسُ نَظرَهُ إلى السَّماء، وردَّد في نفسِه: الآن، انتَصَبَت شُعلةُ الماوراء. الآن، اكتملَت بَوصَلةُ التِّيه.

21. الجَمال، حَتمًا
الجِبالُ كلُّها، من حملايا إلى الأرز،
آلهةٌ تَجمَّدَت عَبر العصور
ومُعتقداتٌ
وأَحلامُ خائفينَ من أَقدارهم.
الشَّمسُ الّتي تُشرِقُ كلَّ صباح
ظِلٌّ لشَمسٍ أكبر
غيرِ مرِئيّة.
سَنُلاقي الجَمالَ، حَتمًا،
في ما وراء مساحاتِ الضَّوءِ
خلفَ العيونِ الملتصِقَةِ بالصَّخر.

22. ذكريات
نعيشُ في ذكرياتِ الّذين سَبَقونا
كضَوءِ آخرِ النَّهارِ في الزُّجاجِ المُعَشَّق
في الكاتدرائيَّةِ المهجورة
المُضاءةِ بالشُّموع.

23. اختباء
دموعٌ متحجِّرة تتلألأُ ليلًا،
نُتوءاتٌ مُضيئةٌ في القَفَصِ الكبيرِ المُظلِم،
تلكَ النُّجوم الوحيدة.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

"سيبدأُ قُدَّاسُ اللّيل احتفاءً بأَهلِ الأَرَق"،
قالت المرأةُ التي حلَّت شعرَها والتَفَتَت إلى القُبَّةِ الأَعلى،
المرأةُ الأكثر شَغَفًا من السَّماء.

24. موسيقى
أَلتَقِطُ وَقْعَ قَطراتِ المطر فوق الماء. أَصُفُّها واحدةً واحدة، وسطرًا سطرًا، على صفحةٍ بيضاء.

أَعثرُ على الموسيقى في الخطوطِ الهندسيَّةِ للوردة لا في أنفاسها. أَعثرُ عليها في الجمالِ الحائر وفي دفترِ المرايا بعد عبورِ الوجوه.

حَمامَتان تَحومان أَبَدًا في الأُفُق.

25. أَصداء
الغروبُ الماثلُ أمامنا
نَظَراتُ عيونٍ ذَهبَت.

وَصِيَّةُ المُهَرِّج:
لا أريدُ أن أمكثَ هنا،
بل هناك، جِوارَ الشَّمسِ
حيثُ تُدفَنُ الظِّلال
جِواِرَ الشَّمسِ الّتي تبحثُ عن الكنوزِ المطمورة
تحتَ الظِّلال
تَتَلهَّى بها عن سَفَرِنا الآتي.

26. الجبل الّذي كان
الجبلُ الّذي كان، هنا، منذ قليل
امَّحى، فجأةً، في خِفَّةِ الضَّباب
ارتَحَلَ
ومعه ذاكرةُ الطِّفلِ الّذي نامَ يومًا
عند سَفحِه
ومِحفَظَتُه مليئة بأَقلامٍ مُلَوِّنَة.

27. صُوَر
نلتقطُ الصُّوَر كصائدي الفراشات. نُحَنِّطُ اللّحظة كما حَنّطَ الفراعنة مَوتاهم.

الصُّورة الفوتوغرافيّة عَينٌ مفتوحة على العدَم، مَلمَحُ اللّحظة وهي تَنفُق.

إنَّها عَدّاءٌ يَلهث وراء الموت، خُدعَةُ الأبديَّة لنفسها قُبالةَ النَّهر الّذي، فجأةً، لم يعد يتدفَّق.

28. في مُوازاةِ الأُفُق
أينَ أنتَ الآن
يا مَن يُطلقُ صرخةَ الولادة كلَّ يوم
ليرى في أيِّ اتِّجاهٍ تَمضي
ومعها النِّساءُ اللّواتي يتقدَّمنَ بعيدًا،
في مُوازاةِ الأُفُق،
وفي أَيديهنّ باقاتُ زَهرٍ لا تَنطفئ
وكَمْشَةُ تُرابٍ مُغلَقٍ
على الينبوعِ المُتَدفِّقِ في قلبك؟

29. المَمَرُّ الضَّيِّق
نَقطفُ الضَّحكَ من أَشجارِ البساتينِ المُحيطة بالنَّهرِ ومن قَصَبهِ المتمايلِ قبلَ حلولِ الظّلام. تتسابقُ الأيّامُ والوردةُ المَرميَّة في تَدَفُّقِ الماء والقمرِ المُسرعِ بينَ الغيوم.

فجأةً، طَعمُ الرَّماد. دخانُ حرائق انطَفأَت.

لا يَعبُرُ الجمالُ في المَمَرِّ الضَّيِّقِ بينَ الشَّيخوخةِ والموت.

30. تَلَصُّص
أنتِ نائمة، غافلة عن جسدك
كاحِلُكِ الأيمَن خارجَ الملاءات.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
نائمةٌ أنتِ
والرّجُلُ الّذي لا ينام‬
يتلصَّصُ على ما فاضَ من عُريِك.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

31. تنامُ الحديقة
تنامُ الحديقة حينَ عنها تَغفُلُ عيناكِ
تَحتَجبُ أَشجارُها وعلى نفسِها تَنطوي الأغصان
يَنسَكِبُ الماءُ في الحَوضِ المَرمَر
بلا صَوت،
وبالعارياتِ الواقفاتِ في النَّوافذِ
تَحلمُ البَراعِمُ أَمامَ الأَنجُم.

32. الهَمسُ الأَوَّل

يتحدّثُ هولدرلين عن الحياةِ البدائيّةِ والعودةِ إليها عَبرَ الأناشيد. عند المساء، فيما الضَّوءُ ينسحبُ وراءَ الأُفُق، أَضَعُ رأسي على صَدرِك وأَسمعُ خَفَقانَهُ الأَبديّ. يتناهى إليَّ الهَمسُ الأوَّل، قطراتُ المطرِ فوق الأشجار والنَّسَماتُ التي تزورُ بيتَنا البعيد قبلَ وصولِها إلينا. ذلك كلّه، في الوقتِ الّذي لم يبدأ بعدُ، في كَونٍ يَتهجَّى بدايةَ التَّكوين.

مختارات من ديوان بنفس العنوان، يصدر هذا الأسبوع، عن دار التنوير/ بيروت. صفاء سالم إسكندر: شاعر وتشكيلي عراقي، من مواليد بغداد 1990، وبها يقيم.