بالنسبة إلى كثيرين قد يكون السؤال الأول في المقابلة هو أهم الأسئلة في الحوار بأسره. ولكن بعد قراءة الكتاب كاملاً قد يستنتج القارئ أن مقدمة السؤال الأول هي «ملخص»، أو انطباع شخصي، وقد أعيدت صياغتها بعد الانتهاء من اللقاء. ذلك أن المقدمة تشير إلى أن «حركة الوعي»، تبدو في ذهن «جيل كامل من المثقفين»، ما تبدو عليه: «حلم لن يتكرر». وفيما يمكن الموافقة على الشق الأول من السؤال، أي أن «حركة الوعي» (تأسست في 1969 وانحلت في 1975) كانت ظاهرة فريدة، قد تصعب الموافقة على طبيعتها الحالمة، على الأقل مسايرةً لاسمها، ولوظيفتها الأساسية كما أرادها المنضوون فيها. اسمياً، تبدو العودة إلى الأصول الهيغلية مغرية دائماً، عند الحديث عن الوعي، بما هو «الكيان المباشر للروح» من دون أن يعرف هذا. ذلك أن الوعي لا يمكنه معرفة إلا ما يقع ضمن حدوده، أو بالضبط ضمن حدود تجربته. لقد قامت الحركة على «الوعي»، هذا ما أراده لها القائمون لها. وقد كانت حسب الدويهي، في أوساط الجامعيين، تضاهي الأحزاب اللبنانية التقليدية مجتمعة. ومع اشتداد النزاع الطائفي، وصعود المخاوف من كلّ صوب، وانتشار ظاهرة التسلح الشعبي على نطاق واسع، وجدت حركة الوعي نفسها أمام خيارات حاسمة. حلّت نفسها بنفسها. وكان وعياً حقيقياً في حدود تجربتها تحديداً، إذا أفرطنا في الاستعارة من الأدبيات الهيغلية. الدويهي نفسه، في عرض حواري طويل للتجربة، يسترجع تسميات حركته ورؤيتها للمشهد ضمن حدود ظلالها المتبقية، الظلال التي انقسمت على نفسها وصارت أفراداً. أما عن الحركة نفسها، فكانت لديها رؤيتها فعلاً. وليس غريباً أن يكون أحد الأسئلة الأولى عن التيار الماركسي. أولاً لأنه كان تياراً مهيمناً في العالم. كانت حدود تأثيره تتجاوز البعد اللبنانوي عند اليمين اللبناني، وعند «حركة الوعي» أيضاً. هذا البعد الذي يرفضه الدويهي، رغم أنّ الكتاب يسمّي أحزاب الجبهة اللبنانية وعلى تنويعاتها اليمينية بالـ «الكيانيين» ويستعمل هذه اللفظة للدلالة إليهم. لا يعتبر الدويهي «حركة الوعي» تياراً يمينياً، رغم أنه، وفي نظرته إلى «المسألة اللبنانية»، يتحدث عن «تجسيد الدور اللبناني في مجال التفاعل وضروراته الإقليمية والعامة». يتحدث أيضاً عن دور اللبنانيين في «تعميق التجربة العربية بربطها بالأبعاد العالمية والإسهام في إعطائها أبعاداً علمانية وديموقراطية». وإن كانت الحركة كما يقول رئيسها يساراً عند اليمينيين، ويميناً بالنسبة لليساريين، وإن كان المنتسبون إليها من المثقفين، أو من الذين لم يحملوا سلاحاً حربياً، فهذا لا يضعها حكماً في موقع «الوسط»، أو يخرجها من الدائرة تماماً، كما تشتهي لنفسها. ربما يصح القول إن «حركة الوعي» كانت يميناً وسطياً في خطابها، ويميناً حاداً في طبيعة المنتسبين إليها من أريافهم البعيدة وأحوالهم المتأرجحة. وربما تلك كانت فرادتها، أي استطاعة التأسيس لمسلك جديد وواضح من خارج الصيغة العائلية التي أنتجت أحزاب اليمين التقليدية بعد الحرب (الجميّل – شمعون – فرنجية، إلخ). لكن التأسيس لم يقوَ على رياح الحرب العاتية، فاستحالت الحركة ظلالاً لنفسها، واستكانت تجربتها في فيء الذاكرة.
المراجعة ليست سلبية إلا إذا قرأت بلغة الحرب. ولكن الحرب انتهت ويجب أن تكون القراءة أكثر اتّزاناً. كان أعضاء «حركة الوعي»، سوسيولوجياً، والتعبير للدويهي، «آتين في أكثريتهم من المجتمع المسيحي، حيث الفكرة الكيانية اللبنانية لكن الحركة علمانية بالكامل». وفي مكان آخر يعود الدويهي ليؤكّد أنها كانت، بالطبع، تضمّ نسبة يصعُب تقديرها بدقة، من مؤيدي الأحزاب «الكيانية» اللبنانية التقليدية الثلاثة، «الكتائب» و«الأحرار» و«الكتلة الوطنية». هل يجعلها هذا حركة يمينية؟ ليس بالضرورة. ما يستند الدويهي إليه في تعريفه لمرتكزات حركة الوعي هو ما قد يجعلها كذلك، تحديداً ما يعتبره «ثقافة لبنانية، إنسانية، تغييرية، طليعية ومنفتحة، مأخوذة بهاجسي العدل والحرية وبحب المعرفة، وإعلاء شأن العقل النقدي، وبمحبة عميقة للبنان، وبرأفة بالغة على الفقراء والضعفاء، وبرفض غريزيّ مطلق للفساد والفاسدين، والظلم والظالمين، وللعمالة والمتعاملين، وكل ما يتبع ذلك ويدور حوله». صحيح أن شخصية الدويهي الأدبية تطغى بوضوح على تعبيره، فهذه مرتكزات شاعر وليست مرتكزات سياسية واضحة، لكن «حركة الوعي» نشأت وتكوّنت في بيئة الفكرة اللبنانية، وهي بيئة مسيحية الأصول في أكثريتها الكبرى. اليوم تغيّر الوضع، برأي الدويهي. هل تغيّر «الوعي»؟
في مراجعته الطويلة، يقول الدويهي إن الفكر الماركسي غلب عليه طابع الشمولية والتعميم وإنه اصطدم بالواقع اللبناني المعقد. وهذه قراءة من زاوية لبنانية صرفة. وإن من أخطاء الماركسيين كانت اعتبار الصراع الطبقي بديلاً جاهزاً عن الصراع الطائفي. وهذه قراءة لبنانية للغاية. وسواء اتفقنا معه أم اختلفنا، يجب أن ننتبه إلى أن هذه كانت منطلقات الحركة أصلاً ونقاط قوتها، أي أنها تعاملت مع الأحداث وفق رؤيتها، ولم تغير رؤيتها عندما تغيّرت الأحداث، أي اندلاع الحرب. لكن الكارثة المستمرّة حتى اليوم، تكمن في عدم اعتراف «اللبنانوية» المتباهية بتعدّديتها، بوجود علاقة بين الطائفية والامتيازات الطبقية، وبين الامتيازات الطبقية والحرب، ثم بين الطائفية وبين الحرب نفسها كمرحلة أخيرة.
يسترجع الدويهي ماضياً نوستالجياً. أسماء كثيرة تمرّ على مسرح تاريخ الحركة. بول شاوول، عصام خليفة، عقل العويط، منير أبو عسلي ودلال بركات. أنسي الحاج كتب فيها مقالاً ذات يوم. وأدونيس أُعجب بنصوص الدويهي الشعرية، التي لم تكن موقّعة باسمه. وكانت نصوصاً أكبر من زمنها، وأكثر قوة منه. نتحدث عن نصوص الدويهي الشعرية بالعربية والفرنسية، المنشورة في العدد الثالث من مجلة «الوعي اللبناني»، المأخوذة من «يوميات الحالة الداخلية» لديه. ومثلها مثل «كتاب الحالة» وسائر أعماله الأدبية. لقد بدأ بكتابة اليوميات أثناء المراهقة وما زال مستمراً بهذه الفعلة حتى اليوم. لم يوقع نصوصه آنذاك لاعتقاده أن كل ما كان يكتبه مجرد مسودات لما سوف يكتبه، ولما يجب أن يكتبه. هاجس «الكتابة المطلقة» كان يمنعه من النشر.
لقد كانت النصوص أشبه بوعي فرديّ يعبر في سيرورة جدلية محاولاً الوصول إلى وعي مطلق. لكن الحركة تحديداً من أشكال الفكر الذي يتحقق فيه التدرج التاريخي. والتاريخ في ذاكرة الدويهي وافر. في الستينيات وحتى ما قبل الحرب بقليل، كان كل المنتسبين إلى كلية التربية يتقاضون منحة شهرية تؤمّن لهم معيشتهم على خمس سنوات. وكانت القوى الكيانية في الجامعة اللبنانية متحدّرة من الفئات الاجتماعية المحدودة الدخل، وبينها غالبية من المناطق الداخلية، وتضم الكثير من المستقلين عن الأحزاب. لذلك كانت تلتقي مصالحهم وتطلعاتهم مع الأفكار التغييرية، ومع التطوير والتحديث وإقامة العدل الاجتماعي، ما شكل غالباً بيئة مناسبة لظهور حركة الوعي. التاريخ كثير والاختلاف مع «تصنيف» الحركة في المشهد السياسي، لا يلغي ضرورة إنصافها، على الأقل إنصافاً للمشهد، قبل استفحال المآلات على صورتها اليوم. خلافاً كلياً لوضعية الجامعة اللبنانية اليوم، التي تهيمن على مجتمعها الطالبي بالكامل، الأحزاب والقوى والشخصيات السياسية نفسها المهيمنة على المجتمع اللبناني، «كان مجتمع الجامعة اللبنانية آنذاك مختلفاً عن المجتمع اللبناني...». وما كان يميّز الفاعلين في كلية التربية - التي تبدو صاحبة مكانة خاصة في قلب الدويهي ويحاول في أكثر من مكان تعليل هذه المكانة وتفسير أسبابها - على المستوى السوسيولوجي هو الانتماء عموماً إلى مصدرين أساسيين: الفئات الاجتماعية المتوسطة والشعبية ومجتمعات الداخل. وكان الوضع مختلفاً في الجامعتين الأميركية واليسوعية، حيث تضم الجامعتان الأخيرتان الميسورين مادياً غالباً، والقادرين على العيش في المركز». يعود في مكان آخر ليؤكد أن تلك الفئات كانت «عصب» حركة الوعي، إذ أن القدر الأكبر من العناصر القيادية كانت من الأطراف، وليست من المركز. يحسب لحركة الوعي أن من بين 16 فرداً تسلموا المهام القيادية توالياً في حركة الوعي بين 1972 و1975، كان 3 منهم فقط من المدينة، بينما كان 13 منهم من الأرياف، ومن بينهم 9 من مناطق جبلية بعيدة، حيث أقامت عائلاتهم.
بعد كل شيء، التاريخ يبقى تاريخاً. عرض لمسيرة الروح. تتبع إنساني للماهية الخاصة فيه، وهي العقل، أي المشاركة في حياة اجتماعية قابلة للاتساع. يسمي هيغل تلك التجربة - ضمن أفق العلاقة معه لأننا بعده - الدولة. ولسيرة هذه الحياة الاجتماعية «الأوسع»، في 2005، أصر أصدقاء على الدويهي الترشح للانتخابات النيابية. لكنه كان يمشي في شوارع طرابلس، يرى كل الصور العملاقة المعلقة هنا وهناك، وكان يشعر بغربة عميقة. لم يكن له صلة ترجى بها، كما يقول. وفي قرارة نفسه ارتاح لأن التحرك الذي دار حوله لإقناعه بالترشح لم يثمر في النهاية. على الرغم من مآخذهم الكثيرة، كانوا في حركة الوعي، آنذاك، يشعرون بقوة لبنان. بعد كل شيء، تلك القوة لم تكن في ضعف لبنان، مهما ترنحت الحركات يميناً، وليست اليوم في قوته، مهما ذهبت يساراً. كان شعوراً، في وعي ثابت أو يتحرك، ضمن حدود التجربة.