لا شيء اسمه مشهد دولي بالصورة التي يتم تخيلها من الغرب عن المشهد الدولي. ومصطفى كمال، فهم ذلك باكراً. والكتاب ينطلق من ذلك، مثلما انطلق أتاتورك من واقعيته منذ البداية. ورغم استخدامه الميثاق الوطني كدعوة للتسلح في مواجهة قوى الاحتلال، فإنه لم يسمح بنشوب صراع آخر، آنذاك، في الجنوب الشرقي، عندما انتهت الحرب في الأناضول عام 1922. قبِل هو زملاؤه الصفقة التي حصلوا عليها في لوزان، وانتظروا بتّ مسألة الموصل لاحقاً في عصبة الأمم. موقع تركيا في الصراع على الشرق الأوسط غالباً يبدأ من هنا، والانتفاضة التركية الأولى في 1925 أضعفت موقف تركيا في عصبة الأمم. ومن هنا أيضاً، تبدأ خيوط العلاقة مع الأكراد بالتعقد. لقد ثار الأكراد على الدولة التركية 28 مرة بين 1923 و1938، وقمعت هذه الانتفاضات دائماً بقوة مفرطة (باشاران تقول بسفك دماء غزيرة وإسراف شديد في القتل). ما يلفت الباحثة أن الأكراد لم يثوروا على قومية تركيا، بل على علمنتها أيضاً، وهذه ليست إحدى القراءات القومية للعلاقة، إذ أن إلغاء مصطفى كمال للخلافة، مثّل في لحظة تاريخية اختفاء رابط أساسي بين الأتراك والأكراد.
سنوات طويلة مرّت، يستعرضها الكتاب بهدوء أحياناً، وأحياناً مع ملاحظات وآراء. هذه الملاحظات تبلغ ذروتها عند الوصول إلى مرحلة «الأكراد في تركيا الجديدة». تسأل باشاران: «هل أراد حزب العدالة والتنمية حقاً إيجاد حل للمشكلة الكردية؟» وهي تستخدم مصطلح مشكلة، وليس أزمة، أو علاقة، على غرار المتداول. لكن هذا الاستخدام للكلمة يبدو عادياً عندما تجيب بسرعة على السؤال: نعم ولا. الحقيقة التي تنطلق منها، هي أن العقد الأول من الألفية الثالثة لم يشهد تتريك الأكراد ولا دمجهم.
الانتفاضة التركية الأولى في 1925 أضعفت موقف تركيا في عصبة الأمم
وهذا منطلق في غاية القومية. وقد يفسّر كل تحليلاتها المعادية للعدالة والتنمية كحزب، اضطرت لتفهم المسألة الكردية انطلاقاً من العداء مع إسلامية الحزب، أكثر من تفهم القضية الكردية نفسها. هذا الاستنتاج سيتعزز في الفصل المعنون «حزب العمال الكردستاني يحوز اهتمام العالم»، خاصةً عندما تسرد بلغتها الصحافية السلسة والجذابة، حادثة صعودها إلى الشاحنة، في الطريق إلى مرج، حيث سيعقد الحزب الكردي مؤتمره الصحافي. هناك حيث وضعت طاولة بلاستيكية يغطيها علم الحزب، في بقعة مقطوعة الأشجار بلا معالم بين الأشجار. تبقى تحقيقات الباحثة التركية مثيرة للاهتمام، لدرجة أعلى بكثير، من نصائح الصحافيين الغربيين، الذين تستشهد بهم الكاتبة لدعم وجهة نظرها، عن ضرورة السير في مسيرة سلام بين تركيا والأكراد. وعندما نقول «أكراد»، فهذا لا يعني أكراد سوريا أو أكراد تركيا فقط. الأكراد كتلة واحدة، وهذا الاعتقاد ليس تعاطفاً مباشراً فحسب بل مع الطرح الكردي، بل تعززه باشاران بسرد طويل لطبيعة «روج آفا»، التي قامت على تضامن أكراد الخارج، الذي ساعد الأكراد السوريين في تلبية حاجاتهم منذ البداية. إضافة إلى ذلك، تشير إلى أرقام هامة. 40٪ من استثمارات القمح في سوريا هو من استثمار الأراضي الزراعية في الجزيرة وكوباني، وقبل الأزمة، 60٪ من نفط النظام كان يأتي من «روج آفا».
في نهاية عرضها الطويل، تخلص الباحثة التركية إلى أن الأزمة الكردية صارت مشكلة عالمية. ولكن، كما بيّنت الأحداث، فإن الأمر سيقتصر على بعض الخطابات الغربية المنددة، وعلى تنسيق بين الجيش التركي والنظام في سوريا، حين تكون المصلحة «مشتركة»، ضدّ الصوت التركي. ما هو منصف في كتاب باشاران، رغم جموحها نحو الملاحظة الصحافية، على حساب الدقة الأكاديمية في كثير من الأحيان، هو خلاصاتها التي ما زالت صالحة رغم استفحال الحرب، أي الدعوة إلى السلام.