القول أعلاه هذا مثل شهير جداً. وهو يبدو واضحاً شديد الوضوح في معناه بالنسبة إلى المصادر العربية المتأخرة. فالكفر فيه يلعب بوضوح ضد الإيمان. يقول بيت شعر متأخّر معروف:«وغرّتني صلاة أبي حبيب
يصلي وهو أكفر من حمار»
أبو حبيب يتظاهر بالإيمان، لكنه في الحقيقة كافر ملعون مثل هذا الحمار. هكذا يُفهم المثل الآن في الغالب.
لكن الأمور لم تكن هكذا في الماضي. فلم يكن أحد يصدق أن الحمار يمكن أن يكون كافراً. فالكفر والإيمان مسألة تتعلق بالبشر لا بالحمير والبهائم. وكان تيار كبير يرى أن حمار المثل ليس حماراً، بل هو رجل يسمى «حماراً»، وأنه كفر في وقت ما كفراً شديداً وجدّف، فقيل: «أكفر من حمار». وهذا كان رأي الأغلبية في الواقع. ويقف ابن الكلبي على رأس من قال بأن حمار المثل رجل: «قال ابن الكلبي: حمار رجل من العمالقة» (ياقوت، المعجم). أما الأقلية فترى أن الحمار حمار واقعي، وأن كفره مجاز. وهم يفهمون «أكفر من حمار» على ضوء مثل آخر يبدو شبيهاً به «أخرب من جوف حمار»: «قال غير ابن الكلبي: ليس حمار ههنا اسم رجل، إنه هو الحمار بعينه. واحتجَّ بقول من يقول أخلَى من جوف الحمار لأن الحمار لا ينتفع بشيءٍ مما في جوفه ولا يؤكل بل يرمى به» (معجم البلدان). ويبدو أن هذا كان في الأساس رأي الأصمعي الواقعي جداً. إذ ينقل عنه الميداني الرأي ذاته بالكلمات ذاتها في تفسير المثل الثاني: «معناه لا خير فيه، ولا شيء ينتفع به. وذلك أن جوف الحمار لا ينتفع منه بشيء» (الميداني، المجمع).

دومينيكو بيولا ــ «أيوب وأولاده» (زيت على كانفاس ــــ 1650)

غير أن قول النبي لأبي سفيان عندما احتجّ لأن الرسول أبطأ في أن يأذن له بالدخول عليه: «كل الصيد في جوف الفرا» يعارض قول الأقلية. فجوف الفرا، حمار الوحش، يختصر الصيد كلّه. أي أنه ينتفع به جداً، وليس كما قال الأصمعي.
وكل هذا يشجع على الاقتناع بأن حمار الحمل رجل- حمار في الحقيقة. وتقول القصة عند الغالبية إنّ رجلاً من عاد أو سبأ يدعى «حماراً»، كان له واد خصيب، ثم حلت صاعقة بأبنائه فقتلتهم، فكفر إثر ذلك، فعاقبه الله وخرب واديه الخصيب. كفره هذا هو الذي أدّى إلى نشوء المثل: أكفر من حمار: «هو رجل من عاد يقال له حمار بن مويلع... كان مسلماً، وكان له وادٍ طوله مسيرة يوم في عرض أربعة فراسخ لم يكن ببلاد العرب أخصب منه؛ فيه من كلّ الثمار، فخرج بنوه يتصيّدون فأصابتهم صاعقة فهلكوا، فكفر... فضرب به العرب المثل في الكفر» (الميداني، مجمع الأمثال). أما ياقوت فيزيدنا شيئاً عن نار أحرقت الوادي الذي يدعى جوف مويلع: «والجوف اسم واد في أرض عاد فيه ماء وشجر، حماه رجل اسمه حِمَار بن مويلع، كان له بنون فخرجوا يتصيدون فأصابتهم صاعقة فماتوا، فكفر حمار كفراً عظيماً، وقال لا أعبُدُ رباً فعل بي هذا الفعل. ثم دعا قومه إلى الكفر، فمن عصى منهم قتله وقتل من مر به من الناس، فأقبلَتْ نار من أسفل الجوف فأحرقته ومن فيه، وغاض ماؤه فضربت العرب به المثل» (معجم البلدان).

أيوب
وهذه القصة بتفاصيلها تحيلنا إلى «سفر أيوب» في الكتاب المقدس وتحيلنا إلى «غاصب السفن» في القرآن أيضاً. وهو ما يعني أننا مع قصة دينية أساساً. فأيوب الكتاب المقدس كفر أو كاد بعدما جاء كائن يدعى «سبأ» وهجم على أولاده وهم يرعون ويحرثون وقتلهم كلهم: «وكان ذات يوم وأبناؤه وبناته يأكلون ويشربون خمراً في بيت أخيهم الأكبر أن رسولاً جاء إلى أيوب وقال: البقر كانت تحرث والأتن ترعى بجانبها فسقط عليها السبئيون [سبأ في الأصل] وضربوا الغلمان بحد السيف ونجوت أنا وحدي لأخبرك» (سفر أيوب: 1: 13-15). وكما نرى فسبأ الغريب هذا كان فعله فعل الصاعقة عند حمار بن مويلع. أما رد فعل أيوب على ما جرى، فحمل الله ذنب ما جرى: «ذاك الذي يسحقني بالعاصفة ويكثر جروحي بلا سبب. لا يدعني آخذ نفسي ويشبعني مرائر» (سفر أيوب 9:17-18). وليست هذه بأقوال مؤمن في الحقيقة، بل أقول شاك يكاد يقترب من الكفر. ويجب أن نذكّر بأن الحمير موجودة في قصة أيوب (الأتن).
وحين نخبر عن وادي حمار الخصيب، الذي تحوّل إلى واد خرب، نتذكر فوراً ما جاء في سورة البقرة: «أيودّ أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون» (البقرة: 266). وكما نرى فكل عناصر أسطورة مويلك بن حمار موجودة هنا: الجنة ذات النخيل والأعناب هي واديه، والصاعقة هي الإعصار، والاحتراق هو الاحتراق، والأولاد الذين ذهبوا هم الأولاد ذاتهم. هذا يعني أننا أمام أسطورة شائعة.
لكن يجب أن نشير إلى أن هناك من يربط بين مويلع (أحياناً يصير الاسم مويلك) وبين الذي يغتصب السفن في القرآن: «مويلك هذا هو أبو الإمليك، الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً. وهم بنو مالك بن نصر بن الأزد. وحمار بن نصر الذي يقال [فيه]: أكفَرُ من حِمَار» (ابن دريد، الاشتقاق). وهو ربط شديد الأهمية. فهو فوق أنه يؤكد الطابع الديني للقصة، يعطينا مؤشراً قوياً جداً إلى طبيعة حمار بن مويلع أو مويلك. ونحن نعرف بالطبع قصة الخضر مع الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً. فقد خرق الخضر سفينة أيتام كي لا يأخذها هذا الموصوف. وهذا يعني أننا أمام قطبين متعارضين: الخضر وآخذ السفن.
ويرى بعضهم أن آخذ السفن هذا يدعى: هدد: «واختلف في اسم هذا الملك فقيل: هُدَد بن بُدَد» (تفسير القرطبي). وهذا يذكر بالإله هدد المعروف، والمرتبط بالصاعقة الثلاثية. وهو طراز ما من بعل الفينيقي. بالتالي، فآخذ السفن يتماهى مع إله معروف.

جذر كفر
أما الكشف عن معنى الكفر في المثل، فيوجب علينا أن نذهب إلى الجذر (كفر). وهذا الجذر شاسع واسع في القواميس العربية. وشساعته دليل على عمق الأسطورة ومركزيتها في التراث العربي وتراث المنطقة. فأسطورة الرجل - الحمار، أو الرجل وحماره، واحدة من أهم أساطير المنطقة، إن لم تكن أهمها على الإطلاق. لكن المعنى الأصلي للجذر هو الاختفاء: «أَصل الكفر تغطية الشيء تغطية تستهلكه... والكافر الزرَّاع لستره البذر بالتراب. والكُفَّار: الزُّرَّاع... وتقول العرب للزَّراعِ: كافر لأَنه يَكْفُر البذر المبذور بتراب الأَرض المثارة إِذا أَمرّ عليها مالَقَهُ؛ ومنه قوله تعالى: «كمثل غيث أَعجب الكفارَ نباتُه»؛ أَي أَعجب الزُّرَّاْعَ نباته» (لسان العرب).
أسطورة الرجل - الحمار واحدة من أهم أساطير المنطقة، إن لم تكن أهمها على الإطلاق


وأظن أن معنى المثل يجب أن ينطلق من معنى الاختفاء. بذا فالمثل يعني «أخفى من حمار»، ذلك أن هذا الحمار ديني، أو قل حمار إلهي، كما أوضحنا. إنه في الواقع رمز لإله خفي، أو يمضي جزءاً من وقته غائباً. ولعل الإله «ذو غيبة» الذي ورد ذكره في النقوش الدادانية نظير هذا الإله. فاسمه «ذو غبة= ذو غيبة» يدل على أن له وقتاً يغيب فيه ويستتر. بذا فقراءة الاسم على أنه «ذو غابة» ليست قراءة سليمة في أغلب الظن.
ولدينا في تلبية عك والأشعريين في الجاهلية، هناك معبد مستتر محتجب: «نحج للرحمن بيتاً عجباً، مستتراً، مضبباً، محجباً». ومن الصعب أن لا يكون المعبد المستتر المحتجب معبداً لإله محتجب مستتر بحد ذاته.
بناء عليه، فجملة «أكفر من حمار» تعني: أخفى من حمار، أكثر استتاراً من حمار، أشد احتجاباً من حمار. وهذا الحمار هو حمار الإله. وهو رمزه. بل هو الإله ذاته. لكن هذا لا ينفي وجود الكفر كضد للإيمان. لكنه مجرد لحظة صغيرة من لحظات الأسطورة، وليس جوهرها.
على أي حال، لا بد لنا أن نذكّر بقصة العزير العربية، فقد نام العزير مع حماره مائة سنة. أي أنه احتجب عملياً مع حماره طوال هذا الوقت. والعزير إله تحول إلى نبي. بذا فالإله وحماره ناما معاً. اختفيا معاً.
كما علينا أن نذكّر أن عيسو التوراة يوصف بأنه فرا- آدم، أي إنسان- حمار وحش. بذا فهو مثل حمار بن مويلع في المثل.
وينقل العرب عن سقراط قوله: «إن أحببت أن تكون ملكاً؛ فكن حمار وحش» (الشهرستاني، الملل والنحل). الحمار هو الملك. وهو الملك- الإله في الحقيقة.

* شاعر فلسطيني