أكمل سليم بقيّة السّهرة منزعجاً لا يبعد المطربة عن ناظريه وأصدقاؤه يتهامسون، أمّا عقله فكان يعبر به خيالات أخرى وهو يتساءل: ماذا حلّ بفمي؟ هل فقد هذا الرأس قدرة التحكّم في الأعضاء؟ قبل نهاية العرض بدقائق، خرج بتعلّة أنّه لن يجد، بعد قليل، ما يقلّه إلى البيت وغادر غير آبه بنداءات أصدقائه. مشى طويلاً في الشّارع قبل أن يصل إلى المنزل. كان يحرّك فمه، يفتحه يتلمّسه ويمرّر أصابعه على شفتيه، محاولاً أن يقنع نفسه أنّه يبتسم. جميع من في المنزل قد نام، دخل غرفته وتمدّد على سريره مغمضاً عينيه. هنا يستمتع بوقته بعيداً عن كلّ المخلوقات الغريبة في الخارج. يمكث لساعات طويلة بين أكوام من الكتب يبني لنفسه واقعاً خيالياً يعلم جيّداً أنّه لن يبلغه. كلّما ضاق نَفَسُهُ، كان ينقطع عن العالم لأيّام يعيد فيها ترتيب أوراقه. دائماً ما تراوده أفكار سوداويّة يجهل خلفياتها ولكنّها تروقه، تصيبه نوبة كآبة يفقد في أثنائها كلّ رغبة في البقاء. سيكون سعيداً لو امتلك سلاحاً كبندقية همنغواي أو مسدّس فان غوغ، يريد أن يغادر نحو الربيع. سليم يعرف أنّ أحداً لن يفهمه على هذا الكوكب، له قناعة أنّه في كلّ مرّة يزداد غرابة، حتّى ليلى تلك التي كان يطلعها على بعض مخالجاته، لم تكن تفهمه إذ لم يكن لها أيّ فضول للتّعرف إلى اليوتوبيا خاصّته. رغم معرفته الطويلة بها، إلّا أنّها لم تكن تختلف كثيراً عن الآخرين، هي أيضاً ترى أنّه دائماً جادّ حتى في الهزل. تعتبره صديقاً مقرّباً، تفصح له عن أسرارها وتطلب نصيحته في حلّ المشاكل. أمّا هو فيحبّها، لا أصدقاء له ولا حتى مصطلح «الأصدقاء المقرّبين» موجود في قاموسه. ولكنّه بدأ الآن يشمئزّ منها.
إنّها الثانية بعد منتصف اللّيل وهو لا يزال متيقّظ الذّهن يحاول فهم حالة عدم القدرة على الابتسامة هذه، حتّى إذا طال به الأمر ارتخت شفتاه وكشفت تقاسيم وجهه عن منظر حزين. كثيراً ما يصل إلى فكرة أنّه ثنائيّ القطب لكنّه يجهل أسباب هذا العطب العقلي، هل ينبع المشكل منه أم من المحيطين به. يسأل نفسه مراراً، ماذا حلّ بك يا سليم؟ أتريد أن تعيش في الرّوايات؟ لم تكن الشّخصيات أبطالاً بقدر ما كانوا بائسين.
يضيع في خفايا نفسه، يعبر فكره حادث من طفولته كثيراً ما يتبادر إلى ذهنه. يتذكّر رحلة نظّمتها المدرسة إلى أحد المخيّمات الصيفية. كان المسؤول عن تلاميذ صفّه، ينظّمهم، يعرّفهم إلى أماكن السباحة وبحذّرهم من التوغّل عميقاً في الماء، لكنّ بعض الفتية المشاكسين نغّصوا عليه يومه الجميل حين بدؤوا بمضايقته وبالتنمّر وباغته أحدهم وسحب تبّانه إلى الأسفل. كان عارياً ومجرّداً من القوّة أمام هذا الكمّ الهائل من القهقهات والسّخرية والعيون الثاقبة. صار الغرق في تلك اللحظات أفضل بكثير من سعيه وراء استرجاع ملابسه ولم يجد حلّاً حينها إلّا أن يبكي وينتحب.
عاد وأرخى رأسه علّ هذه الأفكار البشعة تتلاشى.
■ ■ ■

قبل بضعة أشهر، استدعته إحدى زميلاته في الصفّ للمذاكرة معاً. إذ أنّ زهرة لم تكن بمستوى جيّد ولا نتائجها تبشّر بنجاح مبهر. كانت فتاة مرحة ولا حواجز لها أمام المزاح. لم تكن تروقه لما كان يراه فيها من فضاضة وثرثرة ومع ذلك قبل بدعوتها بما أنّ أحد الأساتذة حثّه على مساعدتها.
دخل منزلها قائلاً: «فلألقي التحيّة على والديك أوّلاً». أجابت بمكر: «لا أحد هنا، هيّا اتبعني». صعدا درجاً ملتوياً نحو غرفتها، أخذت حقيبته قائلة: «اترك هذه عنك وانتظرني قليلاً». بقي يتفحّص كتباً ومجلّدات كان يعرف أنّها لم تقرأ منها حرفاً. استدار حين سمع صوت خطواتها يقترب وفزع لما رأى.
كانت عارية تماماً وقد كشف صدرها عن إجاصتين كبيرتين تتوسطهما حلمتان ورديّتان وانتهت ساقاها الرقيقتان إلى مجرى طويل يعبره دهليز مظلم. كان جسمها الأبيض بفخذيها المكتنزتين ينقط شهوة. أمّا هو فلم يتحرّك فيه شيء ولم يسعفه الشّبق، بل صفعته الذاكرة بمنظر بشع، لقد كان قبل سنين عارياً مثلها أو أسوأ منها، بما أنّه كان محلّ سخرية أترابه، بينما هي الآن تتمايل أمامه رافعة شعرها ضاحكة وهي تقول: «تعال، سليم، أنا أريدك».
سرى في بدنه تيّار غريب، كانت ركبتاه ترتجفان وقد بدأ العرق يتصبب منه. حمل حقيبته ودفعها من أمام الباب وخرج مسرعاً.
■ ■ ■

كان في حفل موسيقي لمّا بادر أحد أصدقائه بالتقاط صورة شخصيّة لهم، ولم تتحرّك عضلات فكّه كاشفة عن ثغر باسم حتّى أرسلت ليلى ضحكات كتلك التي أطلقتها زهرة في ذلك اليوم وبمجرّد تذكّره لها، ارتخى وجهه. حملت ليلى الهاتف وتفقّدت الصورة قائلة: «ابتسم قليلاً، سليم، وكأنّك في عزاء». ردّد غير مبال: «لقد نسيت كيف أبتسم».

* بنزرت/ تونس