هذا الْجَاز بحريّ، من رحم الحلم جاء، من بطون سفن الرق الوافدة من الشرق، باكراً غنّى العبيد أغنية الخلاص، باكراً تحرروا بالرقص من سطوة القطن، موسيقى لا أحَدَ انتظر ضفاف أرليانز ليبشر بولادتها، نَغَمٌ خرج إلى وجوده الأسمى قبل متمّ الحمل، لا أحد انتظر أن يبزغ اسم ماريا في أناشيد الآحاد الحزينة، هناك قرب دوي أجراس الكنائس، في ساحات المدن المتاخمة لرجفة البشر الموعودة، في غابات الضواحي المتاخمة لخوفهم من خفة السناجب، حين تُعَلّق الأيام على مسمار رشاقتها وتفرّ.فرقتنا المطارات بعد إذ جمعتنا. كل ليلة على هاتفي النعسان أسمع أنفاسك المخملية وهي تروّض الرّؤى بدُربة وإيقاع، ضحكتك في العشية قفزت بخفة من فوق خطوط الطول، ما أمهرها وهي تحطم مخطّطاتِ الغياب، كما يحطم فرح ثائر جرار الفخار قرب النبع.

آندي وارهول ــ «دولارات مع علبة صلصة طماطم» (أقلام على ورق، 1962)

في الشوارع الخلفية لأرليانز الجديدة، رأيت المهمشين ينامون تحت سماء رائقة، فائقة الجمال، عظيمة القسوة، كانوا كمن يضعون رؤوسهم على وسائد محشوة بدولارات خضراء ليست لهم. خليج كاليفورنيا كان أخضر كذلك، هنا العشب نشيط كتعاملات البورصة، يزداد نضارة في كل هنيهة وحين، مانحاً للمكان ألوانه المترفة، مستثمراً نفسه في الجهات الألف، مقيماً بعنفوان داخل عيون الشقراوات الندية، نعم، صفحة البحر أمام سجن آلكاتراس خضراء كدولار فسيح مكويّ بعناية أجيال وصبر قرون، هنا رأيت أوراق العشب تختلط بأوراق المال، رأيت الحلفاء والأعداء يكرعون البيرة الصقيعية على مائدة واحدة في المقاهي العائمة، رأيت الخصوم والرفاق يشربون بشراهة من ذات الغيمة الخفيضة، هيا يا ماياكوفسكي، أخرج قصيدتك النيويوركية ليرتاح هذا المدى الذي يشل الحواس، هيا يا فلاديمير، أخرج الرصاصة من قلبك، أو قلبك من الرصاصة، جسر بروكلين ناداني في غفلة من اجتماعات سيتي بانك كروب في البرج الشاهق. «ماء بارد بدولار، ماء بارد بدولار»، هكذا بصوت ذي بحة، بنبرة جَدّ طيب مُحبّ، ردّد الزنجي المكافح أسفل البريدج لازمته الشجية، مضيفاً بكرم الدراويش المعهود: «اِرْوِ ملياً عطشك فإن لم يرتو فدولارك معي».
الشعر في البال والغيوم في السراويل وشمس بروكلين ترسل أشعتها التي من ذهب صقيل يشبه ذهب بنوك الاحتياطي الفيدرالي العتيق، ترسلها من خلف أشجار سيتي هال بارك، وأبراج الحي المالي الشاهقة، ناطحات السحاب والفقراء.
أتذكرين مروحيات مقاطعة كولومبيا إذ حلّقت على علو منخفض في المارينا؟ اهتزت حواسك ورجف صدرك. كانت الأضواء تتلألأ على الماء المتماوج وداخل عينيك، وكنت أنا أعقد اجتماع عملي الأول مع قلبك. لم ندر للوهلة الأولى أتلك الطيور الحديدية الرشيقة خارجة من فيلم رعب أو من كوميديا رومانسية، أهي تشتغل لصالح الرؤى السعيدة أم لفائدة الكوابيس. أمريكا بلد الأحلام الكبيرة والتوجسات العظمى، بلد الرهبة الدائمة، بلد الفزع والهلع والخوف الممنهج والبارانويا المدعومة بالمؤسسات. بلد جبال الفولاذ والمال الشاهقة التي تصمد لقرون ثم بين ثانية وأختها تخر محطمة منصهرة، في مشاهد هوليودية متقنة. أمريكا بلد حبنا الذي أفلت من كل الأجندات، نجا من كل المواعيد المحسومِ أمرُها سلفاً، حبنا الذي انتصر للدهشة والطفولة وألق البدايات المباغت.
قرأت عليك صفحة مريم في رواية هنري ميللر، أو بروايته إن جاز القول، مريم اسم الأسامي، التقاء المقدس بالحياة الشهية الآثمة، مريم المنشطرة الحواس داخل تاكسي قادني وإياك إلى حظنا المريء، المشتعل رغبة ومسرّة، تلك الصفحات المشحونة ناراً من «سيكسوس» كانت منارتنا المشتهاة في الأدب والحياة، أفقنا النشوان الذي صار أشد فتنة حين تقاطع بخط الذاكرة النابض، بآيات الطفولة الجذلى، أيام كنا في المهد صبياً وصبية.
كانت تعجبك كؤوس قطع الفواكه الطرية في محلات القرب داخل أحياء أمريكا المكتظة. قلبي أيضاً ستعثرين عليه يوماً ما مقطعاً كأناناسة ومعروضاً للبيع داخل قصيدة. لقد يمم باكراً شطر وجهك المضيء، كما يممتْ موسيقى الجاز منذ صرختها الأولى شطر شمس لم توجد سوى كي تَنْضُج تحت دفء سمائها النغمةُ الوليدة، كما الجملة التي لا تزال تحبو في المخيلة.

* المغرب