لن أكذب، لم أرتطم بموت «مولانا» محمد عيد ابراهيم. كان الخبر متوقّعاً، أو ربما هو ذاته من نزع فتيل المفاجأة بعد نقاش دار بيننا قبل نحو عامين، أعقب رحيل صديق له اختطفه الموت؛ فقال لي يومها بأنه ارتعب من فكرة الموت الفجائي، وحين سألته إن كان يشعر بالتعب تمسّك بفكرته عن النوم الأبدي بهذا الشكل المريع، بل واستحضر ميتة والده الذي وصفه بالـ «الوحش» الذي سكن بعد ستّ ساعات من نزيف في المخ.انتهى الحديث بيننا وأنا أردد عبارته «الخوف من تصاريف القدر». لذلك لم يهيّئني الرجل النبيل وحدي للرحيل، فعل فعلته معنا كلنا لا تنكروا ذلك، فقد مرض عدة مرات، اقترب من القبر بفضول القطط البلدية، كان حذراً أن يسقط فيجد نفسه ميتاً حقاً! رجع إلى حاسوبه وزاويته، ترجم وكتب وضحك، مرض أكثر، سعل، راسلنا، تحسس آلامه، شرب أدويته، بصق السياسة، سرّب لنا كتباً إلكترونية، افتتح حساباً جديداً على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن تقرصن الأول، استخدم "البروكسي" لفكّ التشفير عن مواقع محظورة في مصر، شتم، ترجم ودوّن، مرض، عجلته لم تهدأ! إلّا أنه توقف كأنه يعرف ما عليه، عاد هادئاً من آخر وعكة، أقسم أن عودته كانت ليجيب على رسائلنا الإلكترونية الكثيرة الرامية للاطمئنان على صحته، تمنينا له الشفاء، ذكرناه في خلواتنا مؤمنين وملاحدة، مجاملين وصادقين، ثم مات.
كنت أعتقد أنني وحدي من يناديه بـ «مولانا»، ثم اكتشفت سذاجتي وأنا أقرأ كل من كتب له على صفحته ولو سطراً، جمعنا محمد عيد إبراهيم في حياته وجمعنا في مماته، كان يحضّنا على الكتابة والحياة على حد سواء، يقرأ منشوراتنا الركيكة والمتماسكة، يسدّ الثغرات فتستقيم جملنا، يحنو علينا حين نكون في مزاج عكر ويرسل إلينا ترجمة أتمها لديوان شعر يحاكي حالتنا، يصحح معلومة ويرفدها بنسخة كتاب إلكتروني مع إضاءة على عتمة لمسها، تعجبه صورنا كما نصوصنا، شعر وقصة قصيرة وحتى شذرة أو مقال صحافي. لا أعلم من أين أتى بكل ذلك الوقت ليكون حاضراً وعرّاباً وراعياً لكل فرد منا. لم يقتصر نفوذه الكريم على مصر، نراه يستأذن لإعادة نشر نص لأحدنا مع ذكر اسمه وبلده، كان يوثّق سيرة المغمورين من أهملتهم مؤسساتهم الثقافية أو كرّمتهم بالفتات. أخاله شعر بقسوة التجاهل، وشللية الأوساط الثقافية، وغبن الأقربين، ومرارة المرض والكبر بلا مظلة تحميه من بعبع العوز للاحتضان والتقدير، لم يتحوّل إلى ساخط سلبي، بل أحال كل ألمه إلى رحلة بحث عن كتّاب جدد، مترنحين على درب القلم، إيمانه بنا كان صادقاً، لولا هذا الإيمان لما فتح لنا أبواب النصوص الأجنبية بشكل مجاني، مسكنا من أيدينا وأرانا كيف يفكر الآخر، وعظمة الترجمة بجوهرها الحقيقي كما يجب أن تكون، لا بواقعيتها التجارية، ليس من السهل أن نؤمن ونثق بشكل جماعي في شخص لم ينزل لانتخابات لكنه فائز بالتزكية لا محالة.
لست بارعة في كتابة الشهادات عن الأموات ونظم المراثي، إلا أنني تمنيت لو سمعت صوته قبل الرحيل الأخير، أو ربما قابلته، كنت كلما ذكرت الأمر يقول: لربما نلتقي؛ فالحياة مجرمة قد تفعل أشياء لا يتوقعها أحد.
لقد أحببت هذا الرجل كما لو كان أبي، أحببته بسحنته السمراء وضحكته التي تكشف عن كمّ هائل من الأسنان قضم بها أوراق الفراولة وحبات المانجا، شاغبته مراراً لأسمع منه «بنتي الجميلة إنت ما بتكتبيش ليه»، حسناً، أما وقد ضعت أخيراً بلا رجعة في زحام القاهرة، ها أنا أكتب عنك، عاجبك كدة يا مولانا؟!

(*) قصاصة أردنية فلسطينية، عمان