في عام 1979 اكتُشف نقش عربي - نبطي يحوي في ما يُعتقد بيتين من الشعر العربي. وقد وقّته ناشروه بنهاية القرن الأول الميلادي وبداية الثاني (بين 80-125 م). بذا فهو يقدّم لنا أقدم نصّ شعري عربي قبل الإسلام بـ 500 سنة تقريباً نملكه حتى الآن. عُثر على النقش في «عين المريفق» أو «عين عبدات» كما دعاه الإسرائيليون. وتقع العين على مبعدة أربعة أو خمسة كيلومترات من مدينة «عبدات» النبطية في النقب في فلسطين. والحق أن الاسم هو «عبادة» وليس «عبدات»، نسبة للإله العربي القديم «عبادة» الذي تسمى باسمه عدد من الملوك الأنباط.
معبد مدينة عبادة النبطية في النقب في فلسطين


النقش مكون من ستة أسطر؛ ومكتوب بالحرف النبطي. لكن ثلاثة من الأسطر باللغة النبطية وسطران باللغة العربية. أما السادس، وهو يحمل توقيع صاحب النقش، فمختلف عليه. فهناك من يقول إنه كتب بالنبطية، وهناك من يقول: بل بالعربية.

النقش
أما الجزء العربي من النقش في السطرين الرابع والخامس فيقول بالحروف العربية:
«فيفعل لا فدا ولا أثرا. فكن هنا يبغنا الموتو لا أبغه فكن هنا أرد جرحو لا يردنا»

رسم النقش من ب. يرديني

وقراءة الناشرين نافيه وشاكد هكذا:
«ويفعل [جرم إلهي الكتاب] ليس لمكافأة أو تفضيل. وعندما يقصدنا الموت لا تدعه [أيها الإله عبادة] يقصدني. وعندما يصيب مرض أو جرح، لا تدعه يصيبنا».
أما سعيد أبو الحب العراقي- الأميركي فقد قطع أبو الحب النقش كما يلي:
«فيفعـــل لا فِدا ولا أثرا  فكــان هُنــا يَبْغِنـا
الموتُ لا أبْغَهُ من هُنا أدَدُ جُرحٌ لا يُرْدِنا» (أبو الحب، مصدر سابق).
وتبعاً لهذا التقطيع، فنحن مع شعر عربي كلاسيكي. لكن للأسف يمكن القول إن ما في النقش بهذا التقطيع ليس شعراً عربياً. فهو يفتقر للوزن، رغم أن الباحث يريد إيهامنا بوجود قافية وروي، عن طريق وضع «يبغنا» تحت «يردنا» و«أثرا» تحت «هنا». كما أنه يكاد يكون بلا معنى تقريباً.
أما أنا، فأرى أن النص نص جنائزي، وأنه مقسوم إلى قطعتين منفصلتين تماماً من حيث الشكل والإيقاع:
القطعة الأولى: وهي جملة: «فيفعل لا فداً ولا أثراً». وهي شطر بيت شعر كلاسيكي.
القطعة الثانية: وهي ما تبقى من النص: «فكن هنا يبغنا الموت لا أبغه. فكن هنا أرد جرح لا يردنا». وهي جزء من أغنية جنائزية.

القطعة الأولى
قرئت القطعة الأولى: «فيفعل لا فداً ولا أثراً»، من قبل الاتجاه الغالب على أنها تعني عموماً: «فيفعل ما يفعل من دون انتظار تعويض ولا تفضيل»، مع خلاف حول من هو الفاعل. أي أن كلمة «فدا» فهمت على أنها من جذر «فدا، فدى» الذي يعطي معاني: الشراء والتعويض والتخليص والفداء. وكان هذا هو الخطأ الأكبر الذي أوصل إلى انبهام النص. وتبعاً لهذا الفهم الخاطئ، قرئت كلمة «أثرا» على أنها من الإيثار. فالفداء يقتضي الإيثار.
والحق أن «فدا» من جذر (فدد) الذي يعني الصوت، مع اختلاف حول ما إذا كان هذا الصوت عالياً أم خفيضاً: «الفَديدُ: الصوتُ. وقيل: شدته، وقيل: الفَدِيدُ والفَدْفَدَة صوت كالحفيف. فَدَّ يَفِدُّ فَدّاً وفَديداً وفَدْفَدَ إِذا اشتدّ صوته» (لسان العرب). بذا يجب قراءة الكلمة بالتشديد: «فَدَّاً» كما وردت في المقتبس هنا. وانطلاقاً من هذا، تقرأ الجملة كلها: «فيفْعَلُ لا فَدّاً ولا أَثَراً». والمعنى: أنه يفعل ما يفعله من دون أن نسمع له فديداً، أي صوتاً، أو نلمس له أثراً. وبناء على هذا، فلدينا جملة عربية معقولة جداً.
ونقول معقولة ولا نقول متينة لأننا نشعر أن كلمة «فيفعل» لينة أكثر مما يجب، وحديثة أكثر مما يجب، بالنسبة إلى نص بهذا القدم، خاصة إذا ما قورنت بالتعبير الرزين المتماسك المتقن، الذي يوحي بعمق الزمن: «لا فَدّاً ولا أَثَراً». بناء عليه، نقترح أن خطأ ما حدث في قراءة هذه الكلمة. وإذا صحت هذه الفرضية، فاقتراحنا أنها يجب تقرأ «فيوغل». أي أننا يجب أن نقرأ العين غيناً، وهذا أمر شرعي تماماً. فالعين النبطية تمثل حرفين عربيين: العين والغين معاً، إذ ليس هناك حرف غين فيها. أما الفاء الثانية في «فيفعل» فنعتقد أنه تجب قراءتها واواً. والتشابه بين حرفي الفاء والواو في الخط النبطي يتيح حصول الخلط بينهما. وإليك نماذج من حرفي الواو والفاء في النقش الذي نحن بصدده:


إلى يميننا كلمة «فيفعل»، وتحتها كلمة «فدا». وإلى يسارنا كلمة «ولا» وتحتها كلمة «الموتو». وكما نرى فالواو في وسط كلمة «الموتو» تشبه بشدة الفاء في كلمة «فكن». صحيح أن الشكل الأصلي للفاء هو الذي في كلمة «فيفعل»، وهو يملك ذيلاً يتّجه لليسار مشكلاً ما يشبه الزاوية. لكن نرى فاء في كلمة «فكن» بلا ذيل، وهو ما يجعلها شبيهة جداً بالواو، التي لا تملك ذيلاً. فالكتابة اليدوية، وخاصة على الصخر، قد تنحرف بشكل الحرف الأصلي، ما يجعله يقترب من شكل حرف آخر. من أجل هذا صارت فاء «فكن» مثل «واو» «الموتو».
كذلك يمكن لشحطة أحدثها الزمن أسفل حرف الواو أن تجعله يظهر كما لو أنه فاء بذيل. ونظن أن هذا ما حدث مع حرف الفاء الثاني في «فيفعل». فقد جعله انحراف عند نقشه، أو شحطة أسفله، يتبدى كحرف فاء، في حين أنه حرف واو. الكلمة إذن في الأصل هي «فيوغل»، لكن شيئاً ما أدى إلى أن تبدو وكأنها «فيفعل».
ولو صح فرضنا، فسنكون أمام جملة عربية متينة جداً: «فيوغل لا فدّاً ولا أثراً». جملة تعطي إحساساً قوياً بالزمن. وجذر «وغل» يعني الاختفاء والذهاب بعيداً جداً: «وَغَلَ في الشيء وُغولاً: دخل فيه وتوارى به، وقد خُصَّ ذلك بالشجَر فقيل: وَغَل الرجل يَغِل وُغولاً ووَغْلاً أَي دخل في الشجر وتَوارى فيه. ووَغَل: ذهَب وأَبعَد... وكذلك أَوْغَل في البلاد ونحوها. وتوَغَّل في الأَرض: ذهَب فأَبعَد فيها» (لسان العرب). كما أن الوغول هو الذهاب مع الاستعجال: «وكلُّ داخِل في شيء دُخولَ مستعجِلٍ فقد أَوْغَل فيه» (لسان العرب). وبناء على هذا، يكون الحديث في النص عن ميت ما. ميت ذهب مستعجلاً، أوغل واختفى، من دون أن يترك وراءه في رحلته صوتاً يسمع، أو أثراً يُقصّ ويُتبع، كي يُهتدى إليه.
وإذا كان الحديث عن ميت، فإن من المفترض أن يكون النص النبطي نصاً تذكارياً لهذا الميت. وهذا يعني أن من المحتمل أن يكون له قبر ما في نقطة قريبة جداً من النقش، الذي حُفر على صخرة لا ترتفع كثيراً عن الأرض. وإذا كانت الكلمة «فيوغل» فعلاً، أي يذهب مستعجلاً، فإن من المحتمل أن يكون الميت مات في مقتبل عمره في معركة، وقبل أن يحين الأوان.
وبهذه القراءة نكون قد حصلنا، في ما يبدو، على وثيقة تحمل شطر بيت شعري عربي يعود إلى نهاية القرن الأول الميلادي أو في زمن قريب من ذلك. وهو منشأ على الأوزان نفسها التي عرفناها بعيد الإسلام، أو على الأقل على بعض هذه الأوزان. إذ أن الشطر يبدو من البحر الطويل (فعول، مفاعيلن، فعول، مفا).

القطعة الثانية
نمضي الآن إلى القطعة الثانية، التي نقسمها إلى قسمين من أهزوجة جنائزية.
القسم الأول:
قرئ عند الغالبية الساحقة مع إضافة الحركات على هذا النحو: «فكان هنا يبغينا الموت لا أبغيه»، أي بمعنى: يطلبنا الموت ولا أطلبه.
ورغم أن قراءة الكلمتين «يبغينا» و«أبغيه» بالغين قراءة ممكنة، فنحن نرى أن الاحتمال الأقوى والأفضل هو قراءتهما بالعين لا بالغين: «يبعنا الموت لا أبعاه». أي أنهما من جذر «بعى» لا من جذر «بغى» بمعنى طلب. وجذر «بعى» يعني الجرم والجناية: «البَعْو: الجناية والجرم. وقد بعا: إذا جنى. يقال: بَعا يَبْعُو ويَبْعَى. وبَعَى الذَّنْبَ يَبْعاه ويَبْعُوه بَعْواً: اجْترَمه واكتسبه... وقال ابن سيده في ترجمة بعي بالياء: بَعَيْت أَبْعِي مثل اجْتَرَمْتُ وجَنَيْتُ» (لسان العرب). بالتالي، يجوز لنا أن نقول: يبعونا، يبعانا، أو يبعينا، بالمعنى ذاته.
إذن، فالكلمات الأربع «يبعينا الموت لا أبعاه»، وهي تعني: يجني علينا الموت ولا يجني عليه. أي عملياً يطلبنا ولا نطلبه. فهو قد مات، ولم يعد من مجال لكي يطلبه الموت من جديد.
تتبقى إذن كلمة «فكن» في جملة: «فكن هنا». وقد قرئت عند الجميع على أنها «فكان هنا». واقتراحنا أن الكلمة يجب أن تظل كما هي، أي من دون زيادة الألف وتحويلها إلى «فكان». فنحن نفترض أنها من جذر «كنن»، الذي يعطي معنى الاستتار والاختفاء والسكن: «كَنَنْتُ الشيءَ: سَتَرْتُه، وأكْنَنْتُه في صدري. واحتجّوا بقوله جلّ وعزْ: «كأنَهُن بَيْض مَكْنون»، وبقوله: «ما تُكِن صُدُورُهُم» ... والكُنَّة: مِخْدَع أو رَف في البيت، والجمع كنَن» (ابن دريد، جمهرة اللغة). يضيف اللسان: «الكِنُّ والكِنَّةُ والكِنَانُ: وِقاء كل شيءٍ وسِتْرُه. والكِنُّ: البيت أَيضاً، والجمع أَكْنانٌ وأَكِنةٌ... وفي التنزيل العزيز: وجعَلَ لكم من الجبالِ أَكْناناً... وكَنَّ الشيءَ يَكُنُّه كَنّاً وكُنوناً وأَكَنَّه وكَنَّنَه: ستره» (لسان العرب).
بناء عليه، يجب قراءة الكلمة بفتح الفاء والكاف وتشديد النون: «فَكَنّ هنا» بمعنى: استتر واختفى، أو بمعنى: سكن وقَرّ. أي على أنها فعل ماض.
وهكذا فالجملة كلها تقرأ:
فكَنَّ هنا
يبعينا الموت، لا أبعاه.
القسم الثاني يقول:
«فكن هنا: أرد جرحو لا يردنا»
وتكرار جملة «فكن هنا» مرة ثانية يؤكد أنها لازمة يجري تكرارها، وهو ما يؤكد أننا في الواقع مع طراز من الترنيم والغناء. أما كلمة «أرد»، فنقترح أنها في الأصل «أرده» بالهاء، وأن جرم إلهي الكاتب أسقط الهاء سهوا حرف الهاء منها فصارت «أرد» وهو ما أدى إلى أن يتشوش الباحثون تشويشاً تاماً بخصوص النص ومعناه. بذا فالجملة كلها تقرأ: «فكَنَّ هنا: أرداه جرح لا يردينا». والمعنى واضح تماماً حتى من دون شرح. فقد أردى الميت جرح. بذا فالدعاء أن لا يردي الجرح الآخرين وأن لا يخترمهم مثله «أرداه الجرح، فليته لا يردينا».

تناظر
بناء على ما سبق، يمكن ملاحظة أن الترنيمتين بنيتا على التناظر:
يبعينا في مقابل يردينا
أبعاه في مقابل أرداه
في حين أن الموت هو الجرح.
ويمكن تصوير هذا التناظر بالشكل أدناه:


وهذا التناظر هو الذي أقنعنا أن هاء سقطت من آخر كلمة «أرد». فلدينا ضمير جماعة «نا» في مقابله ضمير جماعة «نا». بذا يفترض أن يكون لدينا ضمير غائب في مقابل ضمير الغائب، أي يفترض أن نضيف «الهاء» إلى «أردى». فإضافة الهاء تجعل التناظر واضحاً وأكيداً، إضافة إلى أنها تحل لنا لغز المعنى.
النتيجة إذن، أننا مع غناء جنائزي موقّع، يقوم على التناظر والقلب، أو على التناظر المقلوب. وفي هذا الغناء شبه ما ببعض أنواع الغناء الشعبي العربي الحالي الذي يعتمد على الرد والقلب، مثل «المردود» الشامي.

* شاعر فلسطيني