بداية أجد لزاماً تذكير القراء بأحداث ذات صلة بموضوع كتاب «الخليج الإنكليزي: ثروة مشيخات الخليج البريطانية» (بوليتي برس ـ 2018) تبدو صغيرة لكن مغزاها كبير. أولها، فور إعلان موافقة الناخب البريطاني على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، نجد أن مشايخ الخليج، جميعهم، بلا استثناء، تدافعوا للسفر إلى لندن لتأكيد التزامهم بتقديم فروض الطاعة والولاء لعشرة دواننغ ستريت حيث أعلنوا تقديم استثمارات جديدة في بلاد الحاكم الفعلي. كما إن قيام مشيخة أبو ظبي بتسديد كلفة اشتراك الولايات المتحدة في معرض إكسبو يوضح العلاقة الذيلية للمشيخة بواشنطن الأكثر ثراءً عالمياً. كما رأينا شيخ مشيخة قطر وهو يقدم فروض الطاعة لواشنطن عندما تحدث بلغة السيد في حفل عشاء أقامته وزارة الخزانة هناك ليعلن، بلا خجل، أن مجموع استثمارات قطر في الولايات المتحدة يقارب المئتي مليار دولار، وليؤكد للسيد الحقيقي في الدوحة، والسعادة ترتسم على وجهه، أن الميزان التجاري بين البلدين يميل لمصلحة الأخيرة.


هذه الأمور توضح على نحو جلي طبيعة العلاقة التي تربط مشيخات الخليج بالمستعمر القديم والجديد؛ هي علاقة التابع بالسيد، علاقة المستخدَم بالرئيس، علاقة العبد بمالك العبيد.
هذه المقدمة ضرورية للإيضاح أن مشيخات الخليج ليست مستقلة، وأنها ليست دولاً أصلاً. هي مستعمرات غير رسمية تابعة للسيدَين في لندن وواشنطن. فعندما قررت بريطانيا الانسحاب من منطقة الخليج الفارسي (عملياً: منح المشيخات الاستقلال)، نجد أن المشايخ هناك أصابهم الحزن والبَوَار والغم والفزع والإحباط والاكتئاب وصاروا ينتفون شعرهم ويشقون قمصانهم ويلقون بالتراب على رؤوسهم ويضربون بأكفهم صدورهم، وفتحوا مجالس عزاء ليعلنوا فيها مجدداً ولاءهم الأبدي للسيد الإنكليزي، مطالبين إياه بالبقاء رافضين «الاستقلال». بل إنهم عرضوا تمويل كلفة استعبادهم كي تحتفظ بهم عبيداً، لكن لندن لم تكن لتتخلى عن ثروات الخليج، ولذلك استمرت في ممارسة سيادتها عليها عبر ما يُعرف بالاستعمار غير الرسمي (informal empire) ما هدأ قليلاً من روع عبيد القرن العشرين/ الحادي والعشرين. وهذا يذكرني بقول أحد مسؤولي وزارة الخارجية الألمانية لي رداً على تعليقي له بأنهم في الغرب يتحالفون ويصادقون قوى التخلف التي تناقض كلّ ما يدّعون أنهم يمثلونه من حداثة وعلمانية، فقد أجابني بصراحة غير معهودة: هؤلاء ليسوا أصدقاءنا ولا حلفاءنا. إنهم عملاؤنا وعليهم تنفيذ أوامرنا، وعندما يتلكأون، نزيحهم ونأتي بغيرهم. لنتذكر كيف أمرت بريطانيا زايد بن نهيان بطرد أخيه شخبوط، وكيف أنها فعلت الأمر ذاته مع قابوس بن سعيد الذي أطاح بوالده، وأيضاً بشيخ قطر (الأمير الوالد) الذي أطاح بدوره بوالده الذي أطاح بدوره بالجد وبابنه البكر، وإزاحة الشيخ صقر في الشارقة، والقائمة تطول.
الكاتب دايفيد ويرينغ، وهو باحث إنكليزي خرّيج جامعتي لندن وأنغليا رَسكِن يلخّص مضمون مؤلفه الذي يحوي 23 جدولاً ومصوراً بالقول: إن الفصل الأول «إرث الإمبراطورية» يوضح كيف ولدت العلاقة الأنغلو-المشيخية وتطورت لاحقاً من خلال صعود القوة الإمبريالية (قل: الاستعمارية – ز م) البريطانية في الشرق الأوسط وهبوطها وظهور النفط كمورد استراتيجي رئيس وتأسيس نظام الدولة الإقليمي تحت السيطرة الإمبراطورية (أي: الاستعمارية) والتحدي الذي تفرضه القوى الوطنية المحلية والقوة الصاعدة للولايات المتحدة والتحول الكبير في العلاقات بين المملكة المتحدة والخليج. كما يؤكد الكاتب ضرورة فهم كون نفط وغاز الخليج أولاً كمصدر للطاقة الجيواستراتيجية وثانياً كمصدر للطاقة وثالثاً كموقع لتراكم رأس المال لشركات الطاقة في العالم، ورابعاً كمولد للعائدات الضخمة (البترودولار) للدول المنتجة التي يعاد تدويرها في الاقتصاد العالمي لصالح القوى الرأسمالية الكبرى مثل المملكة المتحدة. كما يوضح أهمية ثروات المشيخات لبريطانيا، ما يدفعها إلى مساعدة شيوخها في مواصلة أساليب حكمهم العائدة إلى العصور الحجرية.
الفصل الثاني (النفط والغاز: الجائزة الاستراتيجية والتجارية) يتناول بالبحث الصفات الثلاث الأولى ويدرس أهمية الخليج في استهلاك الطاقة في المملكة المتحدة والقيمة الجيوستراتيجية الأوسع للهيدروكربونات الخليجية لها وللولايات المتحدة.
يوضح الفصل الثالث (النيوليبراية البريطانية ورأسمالية الخليج: مكملان لبعضهما) كيفية تطور اقتصادات كل من المملكة المتحدة والخليج بطريقة تكمل كلاً منهما، مع حاجة بريطانيا إلى اجتذاب التدفقات المالية وتأمين أسواق تصدير مربحة تضاهيها فوائض رأس المال الكبيرة في دول الخليج والطلب المحلي المتزايد.
ظهور النفط كمورد استراتيجي وتأسيس نظام الدولة الإقليمي تحت السيطرة الإمبراطورية


الفصل الرابع (مدى أهمية ثروة الخليج للرأسمالية البريطانية) يوضح تفاصيل الأبعاد المختلفة للتجارة والاستثمار الأنغلو-العربية اليوم ويحاول التأكد بدقة من مدى أهمية الثروة الخليجية للرأسمالية البريطانية إذ لا يهمها بالمعنى الاقتصادي الضيق.
يشرح الفصل الخامس (تسليح الاستبداد) يشرح دور عقود الأسلحة الكبرى التي يمولها البترودولار في دعم الصناعة العسكرية في المملكة المتحدة.
يلقي الفصل السادس (الانتفاضات العربية وحرب اليمن) نظرة فاحصة على كيفية عمل هذه الروابط العسكرية في الممارسة العملية من خلال دراسة اثنتين من أهم الحلقات في تاريخ العلاقات بين المملكة المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي وهي الانتفاضات العربية والحرب على اليمن، مبيناً كيف تحركت لدعم حلفائها المحليين بما في ذلك زيادة مبيعات الأسلحة والتعاون العسكري الأوثق في الحالات التي تعرضوا فيها للتهديدات من الدعوات الشعبية للديمقراطية وعندما شاركوا في الصراع الذي تدهور إلى كارثة إنسانية.

* AngloArabia: Why Gulf Wealth Matters to Britain . polity press (2018). 222 pages. david wearing