«تركيا لم تقتل يوماً أيّ مدني» هكذا صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أثناء العملية العسكرية التركية شمال شرق سوريا، مستهدفاً إقامة منطقة عازلة في عمق الأراضي السورية بطول الحدود المتاخمة، خوفاً من قيام أي كيان كردي على الحدود مع بلاده. لكن من سوء طالع الرئيس التركي أنّه صدرت أخيراً الترجمة العربية لكتاب «أوامر القتل – برقيات طلعت باشا والإبادة الأرمنية» (دار الفارابي) للبروفيسور تنار اكجام، بعدما صدرت عام 2017 ترجمة كتابه الآخر «الفعل المشين – الإبادة الأرمنية ومسألة المسؤولية التركية» (الفارابي).في البداية، ما يُكسب كتب المؤرخ وعالم الاجتماع التركي-الألماني تنار اكجام (1953) مصداقيةً هو سيرته الذاتية، فهو أحد أوائل الأكاديميين الأتراك الذين يعترفون بالإبادة الجماعية للأرمن ويناقشونها صراحةً، إلى جانب تاريخه النضالي في مجال الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية. فقد كان من منتصف سبعينيات القرن العشرين ناشطاً في مجموعات طلابية مناصرة للديمقراطية في أعقاب انقلاب 1971 في تركيا. ونتيجة لنشاطاته وآرائه وعمله رئيساً لتحرير لجريدة «الشباب الثوري»، تم اعتقاله والحكم عليه بالسجن حوالى تسع سنوات، بالإضافة إلى ثلاث سنوات مع وقف التنفيذ. وبعد سنة من السجن، تمكّن من الهرب من سجن أنقرة المركزي وحصل على اللجوء السياسي في ألمانيا حيث أكمل دراسته وحصل على درجة الدكتوراه عام 1996. وهو حالياً أستاذ في قسم دراسات الإبادة الأرمنية في «مركز ستراسلير لدراسات الإبادة والهولوكوست» في «جامعة كلارك».


يحاول اكجام أن يزيح الستار عن الجرائم التركية في حق الأرمن بعد أكثر من مئة عام مِن الإنكار. يذكر اكجام أن العثمانيين وعدوا الأرمن بإعادة التوطين بعد ترحيل مئات الألوف منهم إلى الصحراء السورية. وهناك كان الموت في انتظارهم. ويشير إلى معلومة في غاية الأهمية أن تركيا ليست متورطة بمفردها في إبادة الأرمن، بل تلقى البشاوات الحاكمون آنذاك مُساعدات ألمانية وعملت كلا الدولتين معاً لتهجير الأرمن.
وتنفي الحكومة التركية بشكل مستمر وجود أي وثائق أو أدلة أو قرار رسمي مِن قبل السلطات العثمانية بإبادة الأرمن، بينما يرى اكجام أن الدولة التركية تعمل بشكل ممنهج على إخفاء وتدمير الأدلة والوثائق. ولهذا نشر اكجام في كتابه عدداً من البرقيات الرسمية من الأرشيف العثماني والمدموغة بإمضاء الصدر الأعظم محمد طلعت باشا (1874-1921) وقد كان يرأس وقتها نظارة الداخلية العثمانية في الفترة الممتدة بين 1913-1917. وقد شهد عام 1915 على مذبحة الأرمن. وجاء في إحدى البرقيات الموجهة إلى السلطات العثمانية في حلب بتاريخ 22 أيلول (سبتمبر) 1915 الآتي: «أن جميع الحقوق الأرمنية على الأراضي التركية، مثل حقوق العيش والعمل قد أُلغيت»، ليرد محمود كامل باشا (ولد في حلب سنة 1880ــ توفي في اسطنبول سنة 1922) وكان جنرالاً في الجيش العثماني: «أن أولئك الذين كانوا يخبئون أو يحمون الأرمن في معارضة صريحة لأوامر الحكومة تم حرق ممتلكاتهم على الأرض». وبتاريخ 5 كانون الأول (ديسمبر) 1915، جاء أمر أكثر صراحة من محمد طلعت باشا: «يتم قتل كل الأرمن المقبوض عليهم في الأقاليم الشرقية». وفي برقية رسمية أخرى بتاريخ 14 كانون الأول (ديسمبر) كُتب الآتي: «أول من يجب التخلص منهم هم رجال الدين (يقصد رجال الدين الأرمن، وهم أهل ذمة بالتعبير الإسلامي يتبعون الملَّة الأرمنية، وقد كان يقودها أحد الزعماء الروحيين للكنيسة الرسولية الأرمينية)». وفي برقية بتاريخ 24 كانون الأول (ديسمبر)، أمر بتصفية المبعوثين الأرمن. ولعل الأمر الأكثر تأكيداً على الإبادة التركية للأرمن جاء في برقية بتاريخ في 5 شباط (فبراير) 1917 وتنص على أن «الأطفال الأرمن المُهجرين واليتامى يجب التخلص منهم عن طريق إلحاقهم في قوافل الترحيل».
قوافل الترحيل هذه ستُعرف لاحقاً بـ«مسيرات الموت». بعد التخلّص من المثقفين والأعيان الأرمن في العاصمة إسطنبول وفي أنقرة، وقتل الرجال القادرين على الحرب والإنجاب بشكل مباشر أو أثناء العمل بالسخرة، تم تهجير النساء والأطفال والعجائز الأرمن من منازلهم بالقوة ومُنع الطعام والماء عنهم ودفعهم نحو الصحراء السورية، وهذا القتل الممنهج خلف قرابة 1.5 مليون قتيل أرمني. يضم الكتاب أيضاً العديد من البرقيات مصدرها مذكرات نعيم بك أو برقيات طلعت باشا أو الوثائق الرسمية التركية المتعلقة بترحيل ومذابح الأرمن، وقد كان أول من حصل عليها المفكر والكاتب الأرمني البارز آرام أوندونيو (1875-1952)، وقد واجهت هذه البرقيات الكثير من التشكيك مِن قبل الجانب التركي وخصوصاً أن أوندونيو حصل عليها عن طريق تقديم الرشوة لبعض المسؤولين الأتراك.
وزعم منكرو الإبادة الجماعية للأرمن أن البرقيات التي تُجرّم الأتراك مزيفة، وقد شكك السياسي شناسي أوريل (1915 - 2004) وشوريا يوكا عام 1983 عبر مؤلفهما «برقيات طلعت باشا: حقيقة سياسية أم وهم أرمني» في وجود نعيم بك نفسه، وزعما أن مُذكراته تحتوي على أخطاء وتزوير خصوصاً في ما يتعلق بالتوقيعات والأصفار والتواريخ، وبالطبع ألقوا تهمة التزوير على الصحافي الأرمني آرام أوندونيو. وهكذا أصبحت أوامر القتل التي ارتكبها الصدر الأعظم طلعت باشا مزورة.
يأمل تنار اكجام أن يغيّر كتابه مسار البحوث المتعلقة بالإبادة الجماعية للأرمن


لكن هذا الإنكار لم يعد يصمد أمام حقائق اكجام. على الرغم من الوثائق التي أُتلفت عن عمد من قِبل الحكومة التركية داخل الأرشيف العثماني الرسمي، أظهر اكجام وثائق عدة من خلال الأرشيف العسكري العثماني الذي تم إنشاؤه عام 2007 وظهر فيه توقيع شخص يُدعى نعيم بك خلال الفترة الزمنية نفسها، ما يعني أن نعيم بك قد يكون اسم مُستعاراً لطلعت باشا أو أن نعيم بك كان حاضراً وشاهداً، احتفظ بهذه البرقيات الخاصة بطلعت باشا. وفي كلتا الحالتين، تم دحض إنكار الأتراك للبرقيات ولفرضية عدم وجود نعيم بك.
ولم يكتفِ اكجام بهذا، بل لجأ إلى مصدر آخر هو سجلات المحاكم العسكرية التي عُقدت في اسطنبول بين عامي 1919-1921. وقد حفظت هذه السجلات بواسطة لجنة للتحقيق في الجرائم التي ارتكبت خلال الحرب العالمية الثانية وتألفت من وقائع أكثر من 60 محاكمة ضد 200 مُدعى عليهم. وبفضل هذه البرقيات والسجلات، أصبح ممكناً التأكيد بشكل قاطع، وإدانة الحكومة التركية وإثبات صحة المذكرات وصحة وقائع إبادة الأرمن وصحة كل ما ذُكر في مذكرات نعيم بك على حد تعبير اكجام، خصوصاً أنه منذ صدور الكتاب بلغته الأم عام 2018 لم تعلّق الحكومة التركية عليه، بل فضلت الصمت وشدّدت شروط الإطلاع على الأرشيف العثماني.
في الأخير، يأمل اكجام أن يؤدي عمله التأريخي إلى تغيير مسار البحوث المتعلقة بالإبادة الجماعية للأرمن، بالإضافة إلى التخلّي عن سياسة الإنكار التركية، كما نأمل نحن أن يراجع أردوغان تاريخ بلاده قبل أن يخرج ليصرح يميناً ويساراً ويفتح جبهات لحرب جديدة لإبادة شعوب أخرى أكراداً كانوا أم غيرهم، مطمئناً إلى أن الإنكار جاهز، وإن كان التاريخ يكتبه المُنتصر وينسى... فالضحايا لا تنسى.