لم تحقق رشا عدلي الانتشار الذي تستحقه إلا بعد وصول روايتها «شغف» (الدار العربيَّة للعلوم ناشرون/ 2017) إلى القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» العربيَّة، وفي هذا تأكيدٌ على ضرورة الجوائز وأهميَّتها بصرف النظر عن الموقف من آليَّات عملها، ومدى إنصاف محكّميها. الدورة الحاليَّة من الجائزة نفسها شهدت وصول الروائيَّة المصريَّة إلى القائمة الطويلة مجدَّداً بفضل روايتها «آخر أيام الباشا» (الدار العربيَّة للعلوم ناشرون/ 2019)، ليتكرَّس اسمها بين أبرز الروائيين العرب، رغم اختيارها هذه المرّة خوض تحدٍّ نَأَتْ معظم الروائيَّات العربيَّات بأنفسهن عن أتونه، وهو «الرواية التاريخيَّة».

تخصُّص الكاتبة كباحثة في تاريخ الفنّ يفسّر اختيارها الموضوع، فهي صرَّحت أن فكرة الرواية انطلقت من لوحة شاهدتها في متحف اللوفر. اللوحة تمثل زرافة أهداها والي مصر محمد علي باشا للملك الفرنسي شارل العاشر، مع مرافقَيها حسن البربري وعطير الإفريقي، لتتخيَّل الكاتبة رحلة الثلاثة من ميناء الإسكندرية إلى مرسيليا ومنها إلى باريس، وما سبقها ورافقها وتلاها من أحداث شيقة.
ولكن حكاية الزرافة ومرافقَيها تبقى ــ رغم محوريَّتها ــ رواية داخل الرواية. فقد اختارت الكاتبة تقنيَّة تعدّد الأزمنة، لتبدأ السَّرد من حوار تجريه مذيعة برنامج «توك شو» بريطاني شهير في عام 2017 مع جهاد مصطفى بروفيسور التاريخ في «مركز الدراسات الشرقيَّة والإفريقيَّة» للحديث عن كتابه الجديد «الزرافة الدبلوماسيَّة»، قبل أن تعود عام 2015 لتحكي لنا كيف انطلقت فكرة الكتاب نفسه في ذهن جهاد بعد مكالمة من صديقه الذي يعمل في مجال حماية الحيوان أكمل حامد والذي ينقل إليه معلومة عن عالم أحياء فرنسي يُدعَى أتني سانت هيلاري تتعلَّق بزرافة أهداها محمد علي لملك فرنسا. ثم تعود الكاتبة إلى عام 1826 لتشرح لنا كيف تأزَّمت علاقة والي مصر مع صديقته فرنسا إثر تلبيته طلب السلطان العثماني المشاركة في قمع الثورة اليونانيَّة، ومن ثمّ اتهامه بارتكاب مذابح ضدّ اليونانيين، وكيف يبحث الوالي عن طريقة يصالح بها فرنسا لأنَّ الوقت ليس مؤاتياً بعد كي تقول دولته الفتيَّة «لا» في وجه الجميع، وكيف استعان بقنصل فرنسا الانتهازي برنادينو دروفيتي الذي أشار عليه بإهداء الملك حيواناً غريباً ونادراً مقترحاً عليه الزرافة دون غيرها.
لاحقاً، تتنقل الكاتبة بخفة وسلاسة بين هذه الأزمنة الثلاثة. من خلال مقابلة جهاد، نتعرَّف إلى بعض المعلومات التاريخيَّة الضروريَّة لفهم تلك المرحلة. وبالعودة إلى زمن مطاردته الحكاية وإعداده الكتاب، نرافقه في قصّة حبّ هادئة تشاركه إيَّاها زينة نعمان أستاذة تاريخ الاستشراق في جامعة السوربون، قبل أن نغرق في الحكاية الأصليَّة التي أجادت الكاتبة خلط مكوّناتها ليغدو استخلاص الوقائع التاريخيَّة من الخيال الروائي عسيراً على القارئ غير الخبير في التاريخ.
العنوان «آخر أيّام الباشا» له وقع قويّ ومحفز على القراءة، وهو يرد في متن الرواية بوصفه اسماً للكتاب الأوَّل للدكتور جهاد، ولكن حبذا لو كان اسم كتابه الثاني «الزرافة الدبلوماسية» عنواناً للرواية، فـ «آخر أيّام الباشا» لا ترد هنا في سياق روائي، بل كمعلومات متفرقة على لسان جهاد في حواراته الكثيرة. أمَّا رحلة الزرافة ومرافقَيها، فهي أشبه بالعَمود الذي قامت عليه خيمة الرواية.
أمَّا الخيط الذي يلمّ تفاصيل الحبكة حوله وتشد الكاتبة بفضله القارئ من بداية الرواية حتى نهايتها فهو بحث جهاد عن مصير حسن البربري، أحد مرافقَي الزرافة، الجندي الإنكشاريّ السَّابق الذي تحوَّل بعد إصابته في إحدى المعارك إلى حارس خاصّ للقنصل دروفيتي. التركيز على هذه الشخصيَّة يبدو كما لو كان تجاوباً من الباحث مع نصيحة صديقته زينة التي أنكرت عليه دراسة التاريخ من أعلى، ونصحته بدراسته من أسفل عبر التركيز على الشخصيَّات الثانويَّة البسيطة التي ليس لها باع في السياسة. تعوّض الكاتبة قلة المعلومات حول البربري ومن ثمَّ غيابه المفاجئ عن مسرح الأحداث في باريس عبر حكايتين شيّقتين له، تدور الأولى في الإسكندريَّة مع مُهجة ابنة «المشعلجي»، والثانية في صالونات باريس الثقافية! أمَّا المصير الذي تختاره عدلي لبطلها، فلن يقل إبهاراً عن الحكاية نفسها.
تجعل القارئ يعيد النظر في مجموعة من المسلمات التاريخيَّة


وإذا كانت الكاتبة قد أكملت من مخيّلتها رسم قطع البازل الناقصة في حكاية البربري، فإنَّ جهاد الذي كان مهووساً بالباشا وبطولاته، وهو القائد الشجاع النقيض لوالده الموظف ضعيف الشخصيَّة الذي اعتاد الذل والخنوع، كان مُصِرَّاً على الدفاع عن بطله أمام ما وصمه به المؤرّخون (تبعيَّة للغرب وادّعاء لعروبة مزيّفة واحتقار للمصريين وممارسة للظلم والاضطهاد بحقهم ومن ثم إصابته بالخَرَف في آخر أيّامه)، مستعدّاً لفعل كلّ شيء في سبيل تقديم صورة مغايرة وناصعة عنه، وصولاً إلى رسم قطع البازل الناقصة في سيرة محمد علي بما يدعم حكايته المتخيَّلة حوله، وصولاً إلى التأكيد أنَّ الحالة العقليَّة التي وصل إليها الباشا في آخر أيَّامه لم تكن سوى نتيجة مؤامرة دبَّرها البلاط العثماني أو نجله ابراهيم باشا. ويمكن الاستنتاج هنا من متانة الحجج والأدلة التي قدمها جهاد مقابل طروحات مناوئيه أنَّ الرأي عائدٌ للكاتبة نفسها وقد أوردته على لسان أحد أبطالها، وأنها ربَّما أسقطت افتتانها بالبطل المصري على شخصيتها الروائيَّة «جهاد». تقديم المعلومات التاريخيَّة يبدو متسقاً مع السياق الروائي في مواضع معينة ومقحماً في الحوار في مواضع أخرى، كما في شرح البروفيسور جوزيف عبيد (المصري القبطي الذي يتولى الترجمة بين حسن البربري وعالم الأحياء هيلاري) لحسن وعطير عن العلاقة الملتبسة التي جمعت بين الأقباط ونابليون من جهة وبينهم وبين أبناء جلدتهم من جهة ثانية. قبل هذا، لم تكن الكاتبة قد قدَّمت حسن وعطير كشخصين مثقفين مؤهلين للاستماع إلى حديث من هذا النوع والتفاعل معه. كما أنَّ حسن يتعرَّف لاحقاً إلى كبار مثقفي باريس وفنانيها ويستمع منهم إلى شروحات مفصلة حول تاريخ البلاد وحضارتها وأفكار ثورتها. ويقرّر بدوره أن يبقي شعلة اندهاشهم به متقدة فيتحوَّل إلى حكواتيّ مستغلاً بحنكة عالية الأحداث التي عايشها في الإنكشارية، مثيراً الدهشة في نفس القارئ قبل مستمعيه.
وعلى أي حال، لو لم يكن للرواية فضلٌ سوى هذا الإمتاع الذي تقدّمه للقارئ، ودفعه إلى إعادة النظر في مجموعة من المسلمات التاريخيَّة عبر إثارة فضوله حول تلك المرحلة بأحداثها وشخوصها، وتحريضه على القراءة عنها، لكفاها ذلك وأباح تصنيفها بين أبرز إصدارات العام المنصرم.