«احكي، ياشهرزاد» (دار الأمير) مجموعة قصص قصيرة لدرِّيَّة فرحات تتضمَّن أربع مجموعات قصصية عناوينها: حكايات شهرزادية، وطنيات شهرزادية، شهرزاديات، شهرزاد والحياة.شهرزاد، كما يبدو، هي المكوِّن المشترك والأساس لهذه العناوين. وشهرزاد، كما هو معروف، هي المرأة التي وظَّفت الحكاية في ترويض الملك شهريار، الرجل المستبد القاتل للفتيات اللواتي كان يتزوَّج الواحدة منهن لليلة واحدة، ثم يقتلها في الصباح انتقاماً من النساء، لأن امرأته خانته مع عبده، فكأنه يريد قتل المرأة التي لم يستطع امتلاكها وحده. استطاعت شهرزاد أن توظِّف الحكاية، بما توفِّره لمتلقِّيها من متعة أدبية ومعرفة بشؤون الحياة، في تحويل شهريار إلى متلقٍّ متذوِّقٍ للأدب راغب في المزيد مما يقدمه من متعة ومعرفة، وطالبٍ لامتلاك المزيد من الفاعلية الجمالية الدلالية.
وإذ تطلب فرحات من شهرزاد المعاصرة أن تحكي حكايات حياتها ووطنها، وأن ترقى بها إلى مستوى إنساني، في كلّ وقت، وطوال مراحل عمرها، كما جاء على صفحة غلاف المجموعة الأخيرة، فإنها بذلك تطلب منها أن تحكي ما يُسهم في إحداث التحوُّل المجتمعي الذي يتيح للمرأة المعاصرة أن تغدو حياتها ملك يديها، فتعيشها كما تريد. وفي الوقت نفسه، تطلب منها أن تحكي ما يمتلك الفاعلية الجمالية الدلالية القادرة على التأثير والتحويل.


إن كانت شهرزاد في ذلك الزمان، «تسكت عن الكلام المباح عند الصباح»، فإن شهرزاد هذا الزمان لا تسكت، فزمان هذه الأيام هو زمانها، وعليها أن تقول فيه ما تريد.
فماذا تقول شهرزاد هذا الزمان؟ وما هو الخطاب النِسوي الذي تنطق به قصصها؟
في القصة الأولى «تعويض»، يبدو أن المجتمع، ممثَّلاً بوسائل إعلامه، لا يهتم بالمرأة المثقفة العاملة الناجحة، بوصفها مثالاً يمكن للفتيات أن يحتذين به، وإنما يهتمّ لسببين: أولهما أن تكون فاتنة، وثانيهما أن تقوم بعمل غريب كأن تطلب تعويضاً عمّا ألحقت بها الأحداث من ضرر تمثّل بفقدها «عريساً» يبحث عن زوجة يفخر بها وسط المجتمع الثقافي...
إن يكن هذا هو مجتمعها، فإنها تُشغل بواقع المرأة فيه إلى درجة أن يغدو مكوِّن أحلامها. ففي قصة «موت عصفور»، نتبيَّن أن الحدث هو حلم امرأة تستيقظ لتعلم أن مكوِّن هذا الحلم خبر قرأته في مجلة مفاده: «عشيرة بأكملها تقتل فتاة دون الخامسة عشرة من عمرها لتتخلص من عارها» (ص. ٤٦). العصفور ساحر الجمال والتغريد، هو تلك الفتاة، وهذا تصوير معادل لواقع وكاشف وناقد له.
يبدو هذا المجتمع كأنه مجتمع الرجل. ففي قصة «فرحة عريس»، تسمع المرأة، عندما تعلِّق شهادتها على الجدار، وعندما تتزوج، وعندما تنجب طفلة جميلة: «مبارك، من فرحة عريس» كأنَّ الفرحة، في هذا المجتمع، لا تجيء إلا بمجيء العريس/ الصبي. وفي قصة أخرى «الرسالة الأخيرة»، تكشف أن الرجل مزدوج الشخصية، فمن نحو أول، يريد أن يكون الحب أساس الزواج إن كان الأمر يتعلق به، ومن نحو ثانٍ، يرفض ذلك لأخته.
واللافت أن المثقف الذي يدعو إلى تحرير المرأة، في القصة التي تحمل هذا العنوان، لا يعنيه منها سوى الأنثى، ما يدلّ على ازدواجية شخصية هذا المثقف وعلى التناقض القائم بين خطابه وسلوكه. كما تكشف قصص أخرى خيبة المرأة المتزوجة في علاقتها بالرجل، على مختلف المستويات، إن لم تُجِد الاختيار.
إن كانت هذه هي رؤية هذا المجتمع، فإن المرأة، كما تفيد قراءة عدد من قصص هذه المجموعة «تبحث عن رجل لا يقتصر خطابه على خطاب الرجل للأنثى، تبحث عن رجل لا يشترط أن تكون كلمته هي العليا» (ص.١٨). وتسعى لاكتساب خبرات جديدة في عملها، ولا تركن إلى ما صارت إليه، وإنما تعمل على أن تحقّق الأفضل على الدوام (ص.٢٩). وتريد أن تقود حياتها هي كما تريد، لا كما يريد الاَخرون، كما تريد أن تعيش حياتها كما تحب هي لا كما يحب الاَخرون (ص.٣٥و ٥٠). وإن كان زوجها يحول دون ذلك، فإن الجنة تتمثل، في هذه الحال، في غيابه. ففي قصة «الغائب»، يغيب الزوج الذي لا يعرف إلا إعطاء الأوامر، ويريد من زوجته أن تتفرغ لتنفيذها وتترك عملها من أجل ذلك، ويخيِّرها بين العمل وجنته هو، ويعود ليعرف قرارها، فتقول عيناها عندما تريانه: «عشقت جنة غيابك، ما أجمل ألا تعود! فهل عرفت قراري؟» (ص. ٥٣). هذا القرار هو صوت التمرّد على وضع ترفضه، ويُراد له أن يكون قدرها، وهذا الصوت يسكنها، فيتهادى من داخلها، ويهمس لها، يدعوها إلى إعلان التمرد (ص.١١٣). كما نقرأ في قصة «صوت» القصيرة جداً التي تلتقط صوت حالة تعيشها امرأة ترى وضعها في مجتمعها وترفضه.
تحكي شهرزاد المعاصرة، وتقول حكاياتها: إنها تريد ألّا تختزل إلى أنثى، وأن تكون عضواً في المجتمع كامل الحقوق، تتعلم وتعمل، وتواصل امتلاك الخبرات، وتتجاوز مايعوِّق سعيها لتحقيق ذاتها، فتكون الخيبات صدى من الماضي. تريد أن تحيا حياتها كما تحب وتريد، في جنة يغيب عنها شهريار الذي لا يعرف إلا الأوامر وتفرُّغ امرأته لتلبيتها...
وهي، إذ تفعل ذلك، تكون «كالغصن الرَّطب، تميل إلى كلّ جانب مع الرِّياح، ولكنها لا تنكسر في العاصفة»، وهذا القول لزواتلي، وتصدِّر به قصص «حكايات شهرزاد». بسعيها هذا تحقِّق تحرُّرها، وهو في الوقت نفسه تحرُّر الوطن، وهذا هو قول نوال السعداوي الذي تصدِّر به قصص «وطنيات شهرزاد». وإن كان من شكوى مفادها أن أفق المرأة محدود، فذلك يعود إلى حبسها في المطبخ أو المخدع، فكيف لها أن تحلِّق وقد قُصَّ جناحاها، كما تقول سيمون دو بوفوار. وهذا قول تصدِّر به قصص «شهرزاديات»، لهذا فإنّ المهمة الوطنية الأساس تتمثَّل في الحيلولة دون ذبول عقل المرأة، لأنّ ذبوله يعني ذبول عقل الأمة، وهذا هو قول توفيق الحكيم الذي تصدِّر به قصص «شهرزاد والحياة».
المجتمع، ممثَّلاً بوسائل إعلامه، لا يهتمّ بالمرأة المثقفة العاملة الناجحة


تصدِّر شهرزاد كلّ مجموعة بقول يمثل الخطاب النسوي، كما رأينا، فتشكِّل فضاء الرؤية الذي يصدر عنه القصُّ، أو تشكِّل المنظور القصصي الذي تدرك به عالمها، والذي تمثِّل به هذا الإدراك بنية قصصية.
لا تقتصر الرؤية في هذه القصص، على القضية النسوية وعلاقة المرأة بالرجل، وإنما ترى قضايا أخرى، منها: استحواذ وسائل التواصل الاجتماعي على اهتمامات إنسان هذا العصر إلى درجة أن تنسيه حياته الخاصة، ومنها القضية الوطنية وقضايا إنسانية، كالهجرة، والأبوة والأمومة، والعدوان والفرح بالخصب، والفساد ومعاناة الفقر والزيف...
القضايا كثيرة تتمثّل في بنى قصصية قصيرة وقصيرة جداً. يلاحظ، في القصص القصيرة، التقاط لحظة مهمة من الحياة، وتمثيلها في شريط قصصي قصير ينطق برؤية كاشفة. ففي قصة «تعويض» على سبيل المثال، يلتقط الراوي العليم في الحاضر، لحظة اهتمام وسائل الإعلام بامرأة، ويشوِّق إلى معرفة سبب هذا الاهتمام. هل هو اسمها الذي يشبه اسم تلك الفاتنة المشهورة؟ هل هو شخصيتها العاملة المثقفة؟ يتوقّف القص في الحاضر، ويسترجع الراوي تفاصيل تفاهمها ورجل يقدِّرها واتفاقهما على الزواج، لكنه لم يأتِ في الموعد المحدّد بسبب «الأحداث»، فتتقدّم بطلب تعويض وتسوِّغ طلبها، فيتم الاهتمام بها. ولا يكفّ جرس هاتفها وبيتها عن «رن...رن...رن...». وهذا الرنين المشكِّل فضاء القص هو ما تبدأ به القصة، ما يدل على ما يهتم به المجتمع، فاللحظة المهمة التي تم التقاطها وتمثيلها بنية قصصية قصيرة مثلت دالّاً على المجتمع واهتماماته. تشكلت هذه البنية من حدث واحد غير متشعِّب وشخصيات قليلة وزمن قصير تداخل فيه الحاضر والماضي البعيد والقريب، فاستخدمت تقنية الاسترجاع، ومكان محدَّد، وحوار موظف في تنمية القص وتشكيل الشخصيات وأداء الخطاب، ولغة سهلة، معجمها مألوف، وتركيب عباراتها بسيط. ولا تخلو هذه اللغة من بلاغة، كما نلاحظ لدى تشبيه صف الكلمات بسطر النمل (ص.٢١).
صفات هذه البنية القصصية نلحظها في بنى القصص الأخرى، كما في قصة «الكومبيوتر والحب»، في مثال اَخر. يلتقط الراوي العليم في هذه القصة، لحظة مهمة من حياة شاب تتنقل نظراته على شاشة الحاسوب... ثم يرى إلى جانبه، في صحيفة، ما يحفّز ذاكرته، فتسترجع مشاهد فتاة الشرفة التي أُعجب بها، لكنه شُغل عنها بالحاسوب، فتزوجت، وها هو يرى صورتها في حفل زفافها... هذه اللحظة من الحياة يتكرر التقاطها في قصة قصيرة جداً من قصص هذه المجموعة عنوانها «تكنولوجيا» وفيها تتمثل ثنائية حب العلم # حب المرأة.
القصتان تلتقطان الحدث نفسه، وتنطقان بالرؤية نفسها، هي أن إيقاع الحياة المعاصرة يشغل إنسانها عن الاهتمام بشؤون حياته الخاصة، وخصوصاً العلاقة بالجنس الاَخر. والفرق يتمثل في البنية القصصية، فإن كانت القصة القصيرة تقصُّ حدثاً تقوم به عدة شخصيات موصوفة، ويجري في مكان وزمان معينين، ويمضي في الحاضر، ويرتدّ إلى الماضي، ويتشكل نسيجه من سرد ووصف وخطاب، فإن القصة القصيرة جداً تقصّ حدثاً سرده مكثف، التقنية الأساس فيه التلخيص، يمضي خطياً، شخصياته ضمائر أو أسماء، ليس من زمان ومكان موصوفين، إضافة إلى أن العنوان يكون كلمة واحدة نكرة لتدل على العموم، وإضافة إلى أن الشريط القصصي قصير جداً هو في هذه القصة عشرون كلمة، وعموماً لا يتجاوز المئة كلمة. إضافة إلى هذين النوعين القصيَّين، يلاحظ، في هذه المجموعة وجود نوع كتابي لا يهيمن فيه السرد، وإنما الخطاب، وهو نوع من الإشارات الحكمية المعروفة في تاريخ الأدب العربي القديم والحديث، مثل إشارة «عمر» (ص.١٢٣) التي تخلص إلى أن عمر المرأة يختصر الحياة، وإشارة «خط فاصل» (ص. ١٢٧) التي تقرّر أن حياتنا هي دائماً بين خطين.
تلبِّي شهرزاد، في هذه المجموعة القصصية، طلب «احكي، يا شهرزاد»، وتحكي حكايات الحياة المعاصرة بلغة قصصية قصيرة وقصيرة جداً تعادلها وتنطق برؤيتها الكاشفة لها.