في سياق وصف النبي محمد للأنبياء في حديث الإسراء والمعراج، وصف النبي موسى بأنه مقلص الشفتين: «قال: أما عيسى ففوق الربعة، عريض الصدر، ظاهر الدّم، جعد الشعر، تعلوه صهبة، كأنه عروة بن مسعود الثقفي. وأما موسى فضخم، أدم، طوال، كأنه من رجال [أزد] شنوءة، كثير الشعر، غائر العينين، متراكب الأسنان، مقلّص الشفتين، خارج اللّثة، عابس» (الذهبي، تاريخ الإسلام).
في الأعلى: أداة فتح فم مرسومة على البردي. وفي الأسفل: صورة مقلوبة لبنات نعش. لاحظ الشبه

وقد ورد أيضاً في الخبر أن هشام بن العاص بعث أيام أبي بكر إلى هرقل يدعوه للإسلام، فعرض عليهم هرقل صوراً للأنبياء كانت من بينها صورة موسى: «ثم فتح باباً آخر استخرج منها حريرة سوداء وإذا فيها صورة أدماء شهباء، وإذا رجل جعد، غائر العينين، حديد النظر، عابس، متراكب الأسنان، مقلص الشفة كأنه غضبان. فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا موسى عليه السلام» (المتقي الهندي، كنز العمال).
وإذا صح هذا الخبر، فهو يعني أن وصف الرسول لموسى بأنه عابس، مقلص الشفتين كان تقليداً معروفاً ومتواصلاً.
لكن السؤال هو: لم ربط الرسول بين موسى وبين رجال قبيلة أزد شنوءة؟ وبأي طريقة كان هؤلاء يشبهون في الحقيقة موسى؟
ظن بعض المفسرين أن طول القامة هو ما يربط بين أزد شنوءة والنبي موسى، انطلاقاً مما ورد في الحديث النبوي أعلاه. إذ أن كلمة «طوال» جاءت قبل جملة «كأنه من رجال شنوءة». بذا فقد تهيأ لهم أن الصفة الأقرب للجملة هي المقصودة. لكن خبر بن العاص يضع شكاً حول هذا الاستخلاص، بل ربما ينفيه تماماً. فوصف موسى بالطول ليس موجوداً في هذا الخبر. وهو ما يعني أن هذه الصفة ليست مركزية. وأظن أن الحديث عن طول موسى هو الذي حوّل بني شنوءة في رأيي إلى أناس طوال القامة: «ورجال الأزد معروفون بالطول» (الحلبي، السيرة الحلبية).

الأزدان
وقبل أن نعمد إلى الحديث عن عبوس موسى وتقلص شفتيه، علينا أن نقول إن قبيلة الأزد تقسم إلى قسمين: أزد عمان، وأزد شنوءة. وهناك من يضيف أزد السراة. لكنّ القسمين الأولين هما الأشهر. يقول كثير عزة:
وكنتُ كذي رِجليْنِ: رجلٍ صحيحةٍ
ورجـلٍ بهـا رَيـبٌ مـن الحَـدَثـانِ
فأَمـا التي صحَّـتْ فأَزْدُ شنـوءَةٍ
وأَمـا التي شُلَّـت فـأَزْدُ عُـمَـانِ
بالتالي، فالحديث النبوي يقصد أزد شنوءة لا أزد عمان. وهذا يعني أن رجال أزد شنوءة هم الذين يشبهون موسى في الحديث النبوي، لا الأزد ككل.
وعليّ أن أضيف هنا شيئاً مهماً، وهو أنّ كثيراً من أجداد القبائل العربية هم في الأصل آلهة. فلدينا مثلاً «بنو يام» و«بنو لام». وقد ورد الاسمان «لام» و«يام» في نصوص اللعن المصرية ضمن أسماء مركّبة لحكام في فلسطين. وهو ما يعني أنهما اسمان لإلهين. ولدينا أيضاً قبيلة «تجيب» أو «تجوب». ويقال إنهما قبيلتان مختلفتان. وظني أن الاسم «تجوب» هو اسم الإله المعروف في المنطقة والذي ذُكر في النقوش الحثية على أنه «تشوب». وهناك أسماء قبائل أخرى يمكن أن تكون أسماء آلهة. وعلى أي حال، فأسماء القبائل العربية مبحث خاص بحدّ ذاته. لكن ما يهمّنا أن «شنوءة» جد أزد شنوءة قد يكون إلهاً في الأصل.
على أي حال، يبدو لي أن الصفة المركزية لموسى أنه كان: عابساً، مقلّص الشفتين، كأنه غضبان. وهذا يعني أنه مثل «آكل المرار»، عمرو بن الحارث، الشخصية الأسطورية العربية الشهيرة، الذي كان عابساً غضباً مقلص الشفتين في ما يبدو، أي ارتفعت شفتاه فكشفتا عن أسنانه. فقد وصف بأنه كان «مثل جمل أكل المرار». والمرار نبتة تأكلها الجمال، فتشمئز، وتتقلص مشافرها من مرارته: «إنما سمي آكل المرار لأنه غضب غضبة فجعل يأكل المرار، وهو نبت شديد المرارة ولا يحسّ به من غضبه... والبعير إذا أكل المرار، تقلّص مشفراه، فشبه به وهو لقبه... [وقيل إن أحدهم وصفه قائلاً:] وقد طلع عليك كأنه جمل آكل مرار. قال: و الجمل إذا أكل المرار أزبد، وقيل: بل أرادت كشره عن أسنانه» (الوزير المغربي، أدب الخواص).
ومن الواضح أنه ليس من فرق بين جملة «تقلّص مشفراه» في وصف آكل المرار، وبين جملة «مقلص الشفتين» في وصف موسى. إنهما يعنيان المعنى ذاته. وهذا يعني أن آكل المرار وليس شنوءة فقط على علاقة ما بموسى.
أكثر من ذلك، يبدو أن مضرط الحجارة، عمرو بن هند، كان مثل المذكورين أيضاً. فقد كان كشراً غاضباً لا يبتسم: «وكان لا يبتسم ولا يضحك» (الدميري، حياة الحيوان). وهو ما يعني أننا، في الحالات الثلاث، مع شخصيات دينية.

شنوءة المتقزّز
لكن السؤال هو: ما علاقة شنوءة الأزد بالكشرة وانعدام البسمة حتى يقارن بموسى وبالشخصيات المذكورة؟
والجواب كالتالي: يبدو أن الاسم «شنوءة» ذاته يشير إلى تقلّص الشفتين. إذ الشنوءة تعني التقزز في اللغة. والتقزز حركة تقلص الشفاه: «الشَّنُوءَة، على فَعُولة: التَّقَزُّزُ من الشيءِ... ورجل فيه شَنُوءَةٌ وشُنُوءَةٌ أَي تَقَزُّزٌ» (لسان العرب). وكثيرون يعتقدون أن اسم جد هؤلاء الأزد أخذ من معنى التقزز هذا: «الشنوءة، وهي التقزز؛ ومنه اشتقاق أزد شنوءة» (ابن فارس، مقاييس اللغة). وهذا التقرز في ما يبدو على علاقة بتقزز آكل المرار وتقلص شفتيه حين أكل النبتة المرة. وإذا صح هذا، فاسم جد قبيلة «أزد شنوءة» يعني: المقلص الشفتين. أي أنه مثل موسى تماماً.
وإذا كان جد القبيلة متقززاً، مقلص الشفتين، فأغلب الظن أن القبيلة كانت مقلصة الشفتين مثل جدها ذي الطابع الإلهي. فكما يكون الإله يكون أتباعه - أبناؤه. لكن هذا لا يعني أنهم يشبهونه فعلياً، أي أنهم مقلّصو الشفاه واقعياً مثله، كما فهم بعضهم من حديث الرسول. إنهم يشبهونه ميثولوجياً. وثمة فرق بين الشبه الميثولوجي - الديني وبين الصفات الواقعية. وكل هذا يعني في النهاية أن أزد شنوءة كانوا في الأصل يتعبدون لإله تشبه شرعته الشرعة الموسوية. وقد لقب هذا الفرع المحدد من الأزد بشنوءة لتفريقه عن الأقسام الأخرى من الأزد التي لا تنسب إلى هذا الإله، ولا تتعبده، أي أزد عمان.

موسى الأغلف الشفتين
ومن المحتمل أن تقلص الشفتين في الحديث النبوي على علاقة بما تذكره التوراة عن وجود مشكلة ما في شفتي موسى. فقد وصف موسى في التوراة بأنه: أغلف الشفتين: «فكيف يسمعني فرعون وأنا أغلف الشفتين» (خروج 6 : 12). وفي مكان آخر، يقول موسى عن نفسه: «لستُ أنا صاحب كلام منذ أمس، ولا أول أمس، ولا من حين كلّمت عبدك. بل أنا ثقيل الفم واللسان» (خروج 4 : 11-12). إذن ، فموسى أغلف الشفتين، وثقيل الفم واللسان. وهذه علامات دينية في ما يبدو. أما في القرآن، فموسى معقود اللسان: «واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي» (سورة طه : 27).
وظني أن كل هذا هو ما يربط موسى بأزد شنوءة. أي أن تقلص الشفتين هو ذاته غلفة الشفتين. كما أنه هو ذاته عقدة هاتين الشفتين. مشكلة ما في الشفتين واللسان هي التي تربط بين «شنوءة» جد قبيلة «أزد شنوءة» وبين النبي موسى. وهو ما يعني أن جد قبيلة أزد شنوءة كان شخصية إلهية دينية مثله مثل موسى.
وتبعاً للنصوص الفرعونية، فإن طقساً شهيراً يدعى «طقس فتح الفم» خُصص لإزالة عقدة الشفتين عند الميت. فالميت يكون فمه، أي لسانه وشفته، معقوداً. ولا بدّ من إزالة هذه العقدة. أما الطقس الذي يؤدي إلى إزالتها، فهو طقس فتح الفم. جاء في كتاب الموتى المصري عن طقس فتح الفم:
«فمي فتحه الإله بتاح
عقدة فمي حلّها إله مدينتي
تحوت جاء مجهزاً بالمنطوقات
وفكّ عقدة الإله سيث عن فمي
...
فمي أعيد لي
فمي فتحه بتاح
بإزميل معدني
فتح فم الآلهة».
نحن هنا في هذا النص مع التعبير القرآني ذاته. فموسى يقول في القرآن: «واحلل عقدة من لساني»، في حين يقول كتاب الموتى: «عقدة فمي حلّها إله مدينتي».
ويبدو لي أن فتح الفم هو إزالة تقلص الشفتين. فمع إزالته، يتحرر اللسان وينطق، أي تزال غلفته. وكان هذا الطقس يجري بأداة معدنية تشبه البلطة. أما البلطة فشبه الحية أيضاً. وهما معاً يشبهان بنات نعش الكبرى

بذا، يمكن الافتراض أن موسى وغيره من الشخصيات الميثولوجية مرتبط بشمال السماء، ببنات نقش التي تشبه في شكلها أداة فتح الفم. وكل هذا يعني أن وصف الرسول لموسى لم يكن كلاماً يلقى على عواهنه، بل كان وصفاً تقليدياً معروفاً وشائعاً.
لكن الأهم أن العقدة التي يتحدث عنها كتاب الموتى هي عقدة الإله «سيث». والإله سيث هو إله الموتى. فإليه، على مملكته يصعد الموتى. وإذا نظرت إلى وجه موسى في حديث الرسول، فسوف تلحظ أنه يشبه وجه جمجمة: «غائر العينين، متراكب الأسنان، مقلّص الشفتين، خارج اللّثة، عابس». بذا فالحديث يدور عن إله ميت ما، إله يشبه أوزيريس الميت أما في العدد القادم، فلعلني أزيد عن عقدة لسان موسى وعن غلفة شفتيه.

* شاعر فلسطيني