لا تكتمل الحكاية الشفهية إلا بحضور المستمعين وبأنفاسهم وخيالهم الجماعي الذي ينبت ويتسابق من كلّ مكان حول القاص. هذا ما لم يعد متاحاً في ظلّ ظروف التباعد الاجتماعي، أي التفاعل المباشر مع الحكواتي، الذي يؤثّر غالباً في مجرى أحداث القصة.
«قصص أخبرني إياها والدي، صندوق الفرجة» للفنانة اللبنانية الأميركية هيلين زغيب (2019)

مع ذلك، عادت الحكاية الشفهية في ظلّ الحجر المنزلي في عدد من البلدان العربيّة مع حكواتيين يحاولون قدر الإمكان الإفادة من التفاعل المتاح في العالم الافتراضي، خصوصاً خدمة البث المباشر التي تحافظ على لحظويّة الفعل الحكائي وتلقّيه. في السنوات الماضية، اقتصرت الحكاية على بعض التجارب والمهرجانات التي تستعيد هذا النمط الشعبي، لكنّ ذلك ظلّ خياراً، أو طقساً فولكلورياً أحياناً، مقابل زحمة الفرص المتاحة للتسلية وتمضية الوقت. وفي استعادة سريعة للوظائف التي أدّتها الحكاية الشفهية، منها التكيّف في المجتمع، وفهم بديهي له ولموقع المستمع فيه، فسيكون رواج الحكاية سبيلاً للتكيّف مع الظروف الحاليّة.
من تونس وفلسطين إلى لبنان، وصلت إلى مسامعنا أخيراً تجارب متنوّعة تتسابق على ابتكار قصص، وتتّفق على أن الفانتازيا هي أحد أهم السبل للإمتاع والمؤانسة، وفق أبو حيان التوحيدي وكتابه الذي قدّم أمتع مسامرات الأدب العربي. عبر شاشات التلفزيون أو وسائل التواصل الاجتماعي، يطلّ علينا الحكواتيون لتبديد القلق، في حين لم يعد الواقع إلّا جزءاً من خيال قاتم. ورغم أنّ الإرث الشفوي الذي راج في الدول المتوسطية خسر أنماطاً وأنواعاً متعدّدة في العقود الماضية مثل الشعر الغزلي والملحمي الشفهي، إلّا أنّ هذه التجارب المعاصرة تبدو امتداداً لخيال غنيّ منذ حكايات ألف ليلة وليلة وقبلها من الإمبراطوريات الكبرى التي حكمت المنطقة. في فلسطين، حيث تكتسب الحكاية الشفهية معنى سياسياً في الحفاظ على الهوية ومواجهة الاحتلال، أطلّت الحكواتية آلاء أبو هدوان خلال الحجر المنزلي لتحكي «قصة ما قبل النوم» عبر خدمة البثّ المباشر، وفق مبادرة أطلقتها مجموعة «تمكين» للتغلّب على إجراءات انتشار الوباء. وفي لبنان، رسّخت «دار قنبز» منذ مطلع الربيع موعداً ثابتاً مع الحكاية على فيسبوك. تقرأ ندين توما من كتب الدار العامية وتستعيد الأشكال الغنية للإرث الشفهي المحلّي الذي لا يقتصر على الحكايات، بل الأغنيات والعديّات التي لم تعد تُسمع الآن إلّا في ما ندر في الريف اللبناني. وحالياً، فتحت الباب أمام اقتراحات الجمهور، لتطوّر منها قصة جديدة في محاولة لاستعادة عنصر التفاعل مع المستمعين. كذلك، أطلقت الحكواتية سارة قصير فقرتها عبر شاشة «التلفزيون العربي»، لسرد قصص فيها الكثير من الشخصيات البشرية والحيوانية تخلص في النهاية إلى عبرة أو قيمة أخلاقية تنطبق على العصر الحالي. انتشار الوباء تزامن هذه السنة مع شهر رمضان الذي لطالما شكّلت الحكاية طقساً أساسياً فيه. هكذا استعاد المؤرّخ التونسي عبد الستار عمامو هذه السهرات الرمضانية، لكن افتراضياً لتقديم قصص شعبية يتلوها باللهجة التونسية العاميّة، وبرنّة الجرس التي يعلن بها بداية جلسته. طقس يحافظ فيه على الكثير من ملامح وأدوات القصص الشعبية لأحد أشهر الحكواتيين التونسيين الراحل عبد العزيز العروي، وأرشيفه المليء بأساطير السلاطين وملاحم الملوك والبطولات الشعبية.