تخبرنا الكاتبة الإماراتية إيمان اليوسف في روايتها «قيامة الآخرين» (دار ممدوح عدوان ودار سرد) عن اضطراب نفسي؛ يجعل بطلتها ترى الوجوه كافة بصورة رجلٍ ملتحٍ. تبني الكاتبة باستخدام هذه الاستعارة البسيطة والذكية رواية عن المخاوف التي تتحكم بالناس.قبل الشروع بالحديث عن الرواية، لا بدّ من التنويه إلى أنّ الرجل الملتحي ليس إشارة إلى الإسلاموفوبيا، وهي واحدة من إشكاليات هذا العصر، كما يتبادر الآن إلى أذهان من قرأ السطور الأولى. إذ بدت الكاتبة مصرّة على تجاوز عثرة سوء الفهم هذه، بأن تؤكّد على أنّ ملامح الرجل الذي يحاصرها هي ملامح إله إغريقي. على الرغم من الرهاب الذي تصاب بهِ وهي ترى الوجه وقد تراكب على وجه زوجها ووالدتها وزملائها في العمل، إلا أنّها تعود لتؤكد وسامته.


إذ لا تنفر ميعاد، بطلة الرواية، من القبح، بقدر ما تنفر من التشابه، وفي غمرة هذا التشابه ينشأ مبعث الرواية، وهو قيامة الفرد في وجه الآخر أو إزاءهُ، ليعلن عن وجودهِ، قيامة الأنا مقابل الآخر، سواء كان الآخر جحيماً أو فردوساً. يُدرك القارئ أهمية النص ما أن يخلّصه من نزعة الكاتبة لرمي معارف شتى في متنه، بحثاً عن أصالة تسنده إليها. إذ بينما يبحث السرد عن آباء ويرنو الركون إلى هوية خاصة، راحت الكاتبة تضعفه في سعي عاثر، وقد نما في اتجاهات متباعدة. فالرواية اجتماعية تحكي عن مصورة فوتوغرافية تعمل في أرشيف واحدة من الصحف الإماراتية. زمان الحدث هو الأزمة الخليجية مع قطر، وهذا لا يمنع من العودة إلى الحرب العراقية الكويتية، ثمّ تقرأ الكاتبة الواقع برمته، وفقاً لميثيولوجيا إغريقية أحياناً، وأحياناً أخرى وفقاً لطوفان نوح... لكن رغم ذلك، يبقى النص ممهوراً بطابع غريب وخاص؛ عن فتاة تأنف التشابه الذي يسود عصرها، تصاب باضطراب نفسي يدعى «البروسوباجنوسيا»، يبدأ بسيطاً ثمّ ينمو ويتطور مع نمو الحكاية التي تشبه السقوط، وقد عززته الكاتبة باستخدام جمل قصيرة، متتابعة، سريعة، ليكون السقوط متلهّفاً لوصول النهاية، التي تعيدنا إلى البداية، إنّها حكاية دائرية عن سقوط متعاقب للأفراد ضمن الجموع، سقوط لا يلبث أن يرهق الإنسان.
يدفع اقتراب زوج ميعاد منها ليلاً إلى الهروب من المنزل، وتبليغ الشرطة عن وجود رجل غريب في المنزل، وقد سرق رائحة زوجها وصوتهُ. بهذه المقدمة المثيرة تبدأ الكاتبة روايتها. يتتالي بعد ذلك مأزق ميعاد، إذ سترى والدتها بصورة الرجل الملتحي، وستراه في الوجوه كافة. يتخلّى عنها زوجها، يأخذ طفليهما ويسافر إلى قطر. تكاد تفقد عملها في الصحيفة الإماراتية، إذ لم تعد قادرة على اختيار الصورة المناسبة لموضوعات المقالات. تسافر إلى الكويت كي تلتقي مع زوجها وطفليها القادمين من قطر، وهناك، في الكويت سوف تلحق بالرجل الملتحي وهي تعتقد أنّها أخيراً وجدتهُ. تنتهي في المستشفى، وتخسر مجدداً فرصة الحياة مع زوج وأبناء. ما أن غابت الوجوه عن ميعاد، حتى غابت عنها هويات أصحابها، لتعود وترى في مكان آخر أنّ الملامح «وسائل تشتيت». بذلك، كأنّ ميعاد تريد الفوز بالجوهر، وهو جوهر، تظنّه، متمايزاً بين فرد وآخر. من هنا بالضبط، يمكن فهم نداء الفردانيّة الذي يتوارى بعيداً وراء طبقات سرد اتّسم بالفوضى. حكايا ترميها الكاتبة عن نفسها وعمن يعيش معها، والدتها وزوجها وشقيقتها التوأم وأشخاص تأتي بهم من المجهول وتعيدهم إلى المجهول من غير وظيفة سردية لازمة.
تساؤلات حيال الموت والذاكرة، والمستقبل وعودة الماضي

حكايا عن شغب المدارس والطفولة البعيدة، عن العادات وعن الإمارة التي تسكنها وشجرة الدلب في مشتى الحلو! إلّا أنّ أكثر تلك الحكايات أصالة هي حكاية شقيقها المتوفى، وقد بدأ رحيله لغزاً راح ينمو مع تطور الحالة المرضية لميعاد قبل أن يتكشف اللغز. فقدت الأسرة الابن في عمر صغير، ورافقتهم ذكراه طوال حيواتهم، حتى أنّ ميعاد، ما أن ترجع من الكويت في الجزء الأخير من الرواية، تستقر في غرفتهِ. ما أن تتقطّع خيوط الذاكرة لديها وتترامى على وجوه غريبة، تعود لتلجأ إلى أكثر مواطن ذاكرتها هشاشةً، وفي ذلك الميل الإنساني للبراءة مع انكشاف ما هو معقد ومركب ومفتعل وزائف، تنجو الرواية مجدداً من الأعباء التي أثقلت بها الكاتبة الحبكة الأساسية.
في واحدة من الجمل المفتاحيّة في النص، تعبّر ميعاد عن نفسها «أنا خوف مؤجل يتداعى». تفسيراً لهذه الجملة، تفكك الكاتبة ذلك الخوف المبهم، تعيده إلى مخاوف وتساؤلات جزءٌ منها مخاوف وتساؤلات عامة؛ حيال الموت والذاكرة، والمستقبل وعودة الماضي، والجحيم الذي يستقي الجميع مفهومهم الخاص، عن الآخر، منهُ. ما أن تفكك الكاتبة ذلك الخوف المبهم الملقى بهيئة رجلٍ ملتحٍ على وجوه الجميع، حتى تتفسّخ بطلتها ميعاد، وتتحول أيضاً إلى الوجه الملتحي لذلك الإله الإغريقي، الوسيم، التائه، المرمي في وجه الجميع كما لو أنّه لا أحد، لا هو الأنا ولا هو الآخر، وإنّما هو القناع الذي لا ينحتهُ الزمان ولا تغيرهُ السنون.