تجتمع العاديّات في نسج بنيان «الاشتياق إلى الجارة» (دار الآداب)، للروائي التونسي الحبيب السالمي، وتحتلّ لب السرد، على لسان كمال عاشور، الراوي، وبطل الرواية، الذي يُغرق الصفحات في دقائق يوميّات حياته، وزوجته بريجيت. هما فرنسيّان في العقد السادس من عمريهما، ينتميان إلى الشريحة العليا من الطبقة المتوسّطة، ويسكنان شقّةً في بناء هوسماني الطابع، في باريس، البناء، الذي تدور غالبيّة أحداث الرواية فيه. ثمة ما يجعل قارئ «الاشتياق إلى الجارة» يستعيد رواية «المنور» للبرتغالي جوزيه ساراماغو، أقلّه لتشابه المكان الذي تدور فيه الأحداث، أي البناء، بطبقاته، وبيوته، مع اختلاف الأزمنة، لو أن الإشارة الواضحة إلى الزمان غائبة عن رواية السالمي، باستثناء بعض المحطات التي تفيد براهنيته (تخفيض الحكومة الفرنسية لساعات العمل).
يعمل كمال أستاذاً جامعيّاً لمادة الرياضيّات، وهو من أصول تونسية، لكنّه منغمس في الحياة الباريسية حتَّى أذنيه، فيما بريجيت الفرنسية، موظّفة في بنك. وللثنائي ابن شاب غادرهما، واستقلّ في حياته عنهما. قلّما يكدّر أمر ما حياة الزوجين المضبوطة على إيقاع ساعة سويسريّة، بيد أن تولّي الجارة زهرة التي تسكن الطبقة الخامسة، شؤون منزل المسنّة «مدام ألبير»، في الطبقة عينها، حيث شقّة الثنائي، يغيّر مسار الأمور.


زهرة متزوجة من تونسي يتفق سكّان البناء على أنَّه غريب الأطوار، ولهما ابن شاب يعاني من إعاقة. هي متفانية في عملها. مسلمة، أميّة، هاجرت إلى فرنسا منذ زمن بعيد، وتلاقي الاحترام من جيرانها، الذين يستعينون بها في أداء الأعمال المنزليّة.
تبدأ الرواية من الحديث عن نسبة الفرنسيين كلّ ساكن في البناء لجنسيته؛ زهراء تونسيّة، و«مسيو غونزالس» إسباني، و... ثمّ، تتالى الأحداث عن لعبة الإغواء المضبوطة بين كمال وزهرة، بخاصّة أن الأخيرة طلبت إليه أن يعلّمها القراءة والكتابة بالعربيّة، بعد فراغها من العناية بمنزله كلّ أسبوع. لكن، سرعان ما تفلت الأمور من يد «سي عاشور»، لتتحوّل لعبة الغواية إلى حبّ المسنّ خادمته. حبّ يطرق قلبه بقوّة، ويسيطر على أفكاره، ويوشك على قلب حياته الزوجيّة. حب يحوّل الأستاذ الجامعي، الذي لا يترك مناسبة أثناء حديثه إلى ذاته لتبيان رفعة شأنه وتقدّمه على زهراء في كل المجالات، إلى مراهق يتأمل وجهه طويلاً في المرآة. حبّ يضغط عليه حتّى يسير في جنازة فرنسيّة. حب كان على بعد أنملة عن التخلّي عن طابعه الأفلاطوني. حب فيه أحاديث عن تونس شبه المنسيّة من المهاجرين البورجوازيين، وتونس حلم العودة من المهاجرين محدودي الدخل. تونس بورقيبة الذي كان يلزم البنات دخول المدارس. وتونس المقبرة بعد سنوات الاغتراب.
تفتح التفاصيل اليوميّة في الرواية التي تتضمّن الكثير من دواخل نفس كمال، ومكبوتاته، وبرودة الحياة الباريسيّة، نافذةً على المهاجرين العرب في فرنسا. كان «سي عاشور» الحريص للغاية على صورته أمام معارفه، يعتقد أنّه فرنسي خالص بعد كل هذه السنوات من إقامته الباريسيّة، وانخراطه في مدينيتها، وأنّه في منأى عن مسألة فرز الجنسيات، إلى حين تنبّه إلى أنّ الجميع لم يتخلّ عن نسبه إلى وطنه العربي. سواء «مدام ألبير» الجارة الغنيّة حين تطلب تدخله لنجدة زهرة من زوجها المعنِّف (أنت تونسي مثله، أليس كذلك؟ـــ الصفحة 79)، أو حتّى زوجته (عجيب أمركم أنتم العرب! (...) كم تحبون الحديث عن بعضكم البعض ـــ الصفحة 90).
يفتح الحبيب السالمي نافذةً على المهاجرين العرب في فرنسا


يُدخل السالمي القارئ عبر بطله كمال، ضابط إيقاع السرد الذي لا يخلو من حميميّة، إلى عالم روائي محاك بأسلوب بعيد عن الاستعراض اللغوي، أو الحذلقة. هو يعيد قصّ البديهيات، بعيداً عن أي خطب عصماء أو رسائل مباشرة. يصف، ويبالغ في وصف المعاش، ودواخل البيوت، والمستور، والمُملّ الكامن خلف الأبواب الفخمة. يسترجع قصّة الطيب صالح الشهيرة «عرس الزين»، التي أحبتها زهرة لغلافها، لدورها ربما في تكثيف السرد عن الحب والزواج، «الثيمة» الطاغية على رواية السالمي، أو لتشابه منصور (زوج زهرة) غريب الأطوار مع الزين، أقله في شخصيته الغرائبية.
تحفر «الاشتياق إلى الجارة» في حب رجل مسن، وطبقيته، ومآل علاقة غير متكافئة. ترسم شخوصاً ذات ردود أفعال متوقعة، وتضعها في مواقف شائعة الحدوث. تُعلم قارئها بكل معلوم. تحوّل البديهي إلى نصّ لا يخلو من همس وتواطؤ وودّ. إنّها رواية.