في ذكراه الثالثة والعشرين، لا نعلم سرّ سعد الله ونّوس (27 آذار/ مارس 1941 ـــــــ 15 أيار/ مايو 1997) الذي أفضى به إلى قلب كيمياء مسرحه كلّها خلال فترة صمته الموجزة الثانية (1990-1993) التي أنتج بعدها أعظم مسرحيّاته. وحتّى تلك المسرحيّات السّبع الأهم متباينة في ما بينها بدرجة مدهشة، ولكن لا بدّ من قاسم مشترك بينها حتماً. ستختلف الإجابات باختلاف القراءات والتأويلات، ولكن لعلّ أهمّ سبب في هذه المرحلة الأخيرة الفاتنة هو أنّ ونّوس سمح لذاته بالتسلّل في دفعات متزايدة. سمح لذاكرته أن تنحت مساراً لها داخل المسرحيّات. الجميل في الأمر هو أنّ ذات ونّوس كانت سرديّة لا مسرحيّة. تنامت جرعة السّرد بالتدريج لتحفر مساراً تجريبياً غاب عن أعماله الأولى، وأُلمح إليه إلماحاً طفيفاً في «الاغتصاب» (1989). تجريب فنيّ يتداخل فيه الدراميّ بالسرديّ بحيث لا تقتصر مهمّة السرد بكونه مجرّد «جوقة» للتعقيب والتفسير، بل دخل السرد إلى جسد المسرحيّة نفسها: صارت الشّخوص تُعبّر عن أنفسها أكثر ببوح مونولوغيّ يصل أحياناً إلى صفحتين أو ثلاث، وتشظّت الفصول والمشاهد التّقليديّة إلى منمنمات وتفاصيل بحيث بتنا أقرب إلى موزاييك أو مونتاج مسرحيّ لم يكن الشّكل القديم لمسرحيّاته الأولى يسمح به. اكتشفنا في التقاطاتٍ سريعةٍ ونّوس السّارد الذي كانت أعماله الأخيرة تعد بحضور أقوى للسرد، وهذا ما فعله حقاً حين فاجأنا بكتابه البديع «عن الذاكرة والموت» (1996)، وهو أحد أجمل الكتب السرديّة العربيّة.

كتاب «عن الذاكرة والموت» عصيّ على التصنيف كما هي حال مسرحيّاته الأخيرة وأكثر. يضع ونّوس على الغلاف تصنيفاً محايداً: «نصوص»، ثم نجد الكتاب مقسوماً إلى قسمين: «نصوص قديمة ومهملة» أقرب إلى القصص القصيرة من دون أن ينطبق عليها التّعريف بدقّة؛ و«نصوص جديدة» فيها نص واضح هو مسرحيّة «بلاد أضيق من الحب»، ونصان/متاهتان قريبان من السيرة الذاتيّة وبعيدان منها في آن: «ذاكرة النبوءات» أقرب إلى اليوميات، ولكنّ نص «رحلة في مجاهل موت عابر» لا مثيل له عربياً (ربّما نتذكّر هنا كتب حسين البرغوثي بوصفها أقرب مثال مشابه): يوميات، تأملات، پاروديا، نص ميثولوجيّ قصير، ونص دراميّ يكاد يكون مسرحيّة، أحلام، كوابيس، ونصوص قصيرة قريبة من جوّ القسم الأول من الكتاب، ولكنّها موحّدة في ثيمة واحدة: الذباب. يشير ونّوس هنا بين الهزل والجد إلى أنّه يودّ لو أدخلَ نصوص الذّباب في قسم (بعنوان «ذبابيّات») في المجلد النظريّ من أعماله الكاملة، ولكنّه فضَّلَ تركها في كتابه السرديّ، وأدخلها ببراعة بحيث نجدها حلقةً من حلقات تأمّلاته الهذيانيّة بفعل آثار الجرعة الكيميائيّة التي كادت تودي به، ولكنّها أكثر بكثير من مجرّد هذيانات.
يتكون كرّاس «ذبابيّات» من نصين/ قصتين، تليه تداعيات ذاكرة وتأملات في عالم الذباب، ويختتمه بملحق عن علاقة الذباب بالإنسان، أو بالأحرى مظاهر علاقات الذباب بالإنسان وهي كثيرة حقاً. يلفتنا في النصوص الذبابيّة كلّها تكرار ونّوس لعبارة «لم أكن أعلم» التي توحي بندم لأنّه فوّت فرصة تأمّل هذا المخلوق العجيب، وتوحي من جهة أخرى بخيبته من مدى ضحالة معرفة الإنسان وضآلة وجوده. يروي ونّوس في نص «الذبابة الجائعة» قصة يوم واحد من حياة ذبابة، كأنّه يكتب پاروديا للأعمال المسرحيّة الملتزمة بضوابط الوحدات الأرسطويّة الثلاث. يوم واحد لا يعني الكثير في حياة البشر إلّا لو رواها سوفوكليس أو جويس، ولكنّه عالمٌ بأكمله بالنّسبة إلى ذبابة وحيدة جائعة تخوض مغامرتها الوجوديّة: «كانت الغرفة واسعة كالعالم... كان كل شيء عجيباً ومدهشاً في الوقت نفسه. وإلى حزنها انضافت رعشة الرعب». رعب بسبب الإنسان طبعاً الذي لا يترك لها فرصةً للتأمل ويسحقها لتسقط على الأرض وينتهي وجودها من دون أن تكون قد عرفت شيئاً. هذا الجوّ الوجوديّ ليس بعيداً من جوّ مسرحيّاته الأولى، لكنّ النص الثاني «بعد ظهر دمشقيّ» يبدو بمثابة صلة وصل عجيبة بين العالم الوجوديّ القديم وعالم المسرحيّات الجديدة. الفارق هو أنّنا نتابع بعيني ذبابة تراقب مضاجعة رتيبة في ظهيرة رتيبة في مدينة رتيبة: «تطير الذبابة، وتحط على المصباح الكهربائيّ المتدلّي من السقف. تنظر من أعلى. ترتفع إليتا الرجل. تهويان. تشعر الذبابة بالتقزّز والحزن». تنتهي القصة فنشعر بخواء هائل، يمتزج بأسى حين يواصل ونّوس تأملاته في الفروق بين المضاجعة (التسافد؟) البشريّة وبين العمليّة الجنسيّة لدى الذّباب التي يمكن لعبارة «ممارسة الحب» الباهتة - التي نتحايل بها على الرقابة كيلا نسمّي الجنس جنساً ـــ أن تنطبق على الذّباب ولكن ببعد جماليّ رهيف يقصد الحب في ذاته، لا بكونه مجازاً. يفاجئنا ونّوس باستخدام مفردات صوفيّة، كأنّ الحب والجنس عند الذباب وَجْدٌ، لا محض ممارسة ميكانيكيّة: «حين يلتحم ذكر الذباب بأنثاه، يبدو كأنّهما دخلا حالة من الوجد الغامض، وقررا ألّا ينفصلا ما دامت فيهما قوة أو حياة... كان ينبغي أن أكبر، وأن أفشل في الحب مرات عديدة، كي أكتشف أنّ الإنسان يفتقر كثيراً إلى الحساسيّة والجمال اللذين يتحابّ بهما الذّباب. وفي لحظات... كثيراً ما حسدتُ الذّباب على تلك القدرة على الطيران بأجنحة أربعة، وبشهوة تتدفّق في العروق متجدّدة ومديدة».
يشير ونّوس (في حواره مع ماري إلياس في مجلة «الكرمل» عام 1996) إلى أنّ هوسه بالذّباب قديم منذ أيام يفاعته في قريته حيث كان الذبابُ «الحاضرَ/ الموجودَ الذي لا نعي وجوده إلا كعامل إزعاج، لكنه في الحقيقة وجود يوازي وجودنا بشكل كامل، فلماذا لا نتبنى وجهة نظره من وقت لآخر؟». وبذا، لا تقتصر تأمّلات ونّوس على الجانب الجنسيّ من جوانب حياة الذباب، بل يواصل تداعياته ليروي لنا كيف يشهد الذباب انكسارات الإنسان، وكيف تتداخل حياته بحياة البشر في تفاصيلها كلّها. ويتكشّف له ولنا أنّنا ضئيلون حتّى بالمقارنة مع كائن نراه مقرفاً زائداً عن الحاجة. ولكنّ قَلْب وجهات النّظر سيعني الكثير/ على الأخص حين يختم ونّوس «ذبابيّاته» بحادثة جعلته يربط الذّباب بالسياسة على الدوام، حين رأى لافتة كرتونيّة في كشك مخابرات على الحدود السوريّة - اللبنانيّة كُتب عليها: «الفم المغلق لا يدخله الذباب»، ويُجْمِل الحادثة في عبارة واحدة: «وبهذا المعنى، فإنّ الصمت يجنّبنا الذّباب، ويجنّبنا أيضاً المتاعب السياسيّة». ولكنّ ونّوس لم يصمت حتّى في فترات صمته، بل واصل إبداعه مسرحاً وسرداً في سباق مع العمر القصير، ونوَّع بين صراخ السبعينيّات وهدوء الثمانينيّات وهمس التسعينيّات، ليبرهن أخيراً، في المسرحيّات وفي كتابه السرديّ على الأخص، على أنّ الذاكرة أقوى من الموت.