صمت يطول _ عليكَ أن تُقفل.. أعرف ذلك.. لم يعد هناك ما يُقال.. سلام
_ سلام
تبقى في سريرها. تعطي رأسها للوسادة، علّها تحلّ مكان أمَّها، أو مكان حضن الجدَّة التي أخبرتها أساطير عن بطل يدخل الحلم. تتجسّد الأسطورة وتغيب. تتخيل ممثّلة في فيلم ميلودرامي تنتحب. يا للغباء. تقفل شاشة الخيال. تحسد أحياناً الأغبياء. ابتسامة ساخرة، متسائلة: من هو الذّكي في هذا العالم، بل في هذه الغرفة المغلقة؟! حتى «أينشتاين» وصفه أستاذه بالحمار. يا لغباء الأستاذ الذي يعتقد بأنه ذكي. تتوقّف عن الهذيان. فلتكن الأمور كما هي، لم يبذل أحدٌ منهما أي جهد كي يبدّلها. ابتسامة خجولة لتملأ فراغاً ما.
الصّوت: ابتسامتكِ عنف رمزي.
تختفي الابتسامة. رسمة لأيقونة ساخرة تسأل: ألم يكن هو بكلّه، وتسلّله إلى حياتها عنفاً رمزياً؟!
أخبار عن وباء يجتاح الصّين ويتمدّد. بدأت تظهر ضحاياه بالعشرات، بالمئات، بالآلاف..
يتفشّى الوباء ويصبح جائحة تجتاح العالم. البلاد تستشرس على بعضها. من هو الناقل الأوّل؟ البشر يبثون سمومَهم. الدول الكبرى، كبرى ببثّ السّموم. يُقال هم من صنّع الجرثومة ــ الوباء ــ يصبح جائحة. يتناقل البشر الخبر، من خلف الكمّامات. الكمّامات يتضاعف ثمنَها. تُفقد من الأسواق أجهزة التنفّس، واللباس العازل لمسامات البشر المعدية.

«امرأة عارية مستلقية على سرير» للفنان البريطاني ليون كوسوف (زيت على لوح ــ 22.9×30.5 سنتم ــ 1971)

رجل ضخم بجثّة روحه الكارهة للبشر، هل تسع كل جراثيم العالم؟! هو العالم بأكمله، يتّهم، يعاقب البلاد والعباد. مواطنوه يموتون خنقاً بدلاً عنه. فليموتوا ويخفّفوا عن ميزانيّة الدولة. أيّام وربّما لحظات وينتهون. المذيع يقرأ الخبر ببطء، محاولاً التحقّق من صحّته؛ كبار السّن لا حاجة لهم. مهلاً، ألا يبدأ الموت بهرم مثله؟! يرعد ويزبد كبالون ينفخه الهواء وتزداد جراثيمه. بالكاد يفتح فمه، كلعبة يُحرّكها ممثّل وهو يتكلّم من خلف الستارة. طفل يُقَلّده بنزق وسخرية، يُشبه صوته مواء قطّ. ضحك هستيري للأبوين، لا تفسير له إلا الصّدمات المتتالية، من الجائحة إلى رئيس بلادهما الغير سوي. يزداد الضحك الهستيري.
مقطوعات موسيقيّة لنشرات الأخبار والملاحق السّريعة، يتداخل بعضها ببعض. الآذان تَعِبَة. عدّاد الأموات يتصاعد، في بلد الرّجل الذي يُشبه القطار وبلاد حلفائه، بل التّابعون له، فهو واحد لا حلفاء له. رجل كقطار ببذلة سوداء وربطة عنق حمراء، زرقاء، صفراء كشعره الطائر، مجنون يصرخ. الصّوت معبّأ في خدّيه، لكنهما لا يُشبهان خدَّي عازفَي الساكسفون. يا إلهي لا يشبه أي شيء يُذكر. قناع وجهه السّميك يُشعرك بانسداد المسامات. تكاد تختنق حين تشاهده. لا خفّة لهذا الكائن.
الأنهار تُكمل جريانَها. السّماء تَنضُر. ما عاد هناك ما يُعَكّر صفوها. توقّفت السيّارات والطائرات وكل الملوّثات. يختفي البشر، إلا من بواخر وطائرات قليلة لنقل العلاجات والكمّامات التي يتسابق على سرقتها القيّمون على البلاد المصنّفة على الخرائط، الأولى، وهم المعتادون، لا يوفّرون حجراً ولا بشراً إلا وسرقوه ونكّلوا به؛ لكن في بعيدهم، استثناء لطائرات حربهم التي لا تُهادن. تُكمل بقصف البشر، تتعدّد طرق موتهم. كوليرا، مجاعة، طائرات وصواريخ حديثة وعالية الجودة في السّحق والفَتْك..
صوت طيور من المدى السّحيق. طيور اعتُقِدَ أنها انقرضت، تُرفرف في السّماء. البشر في عُلَبِهم الباطونيّة مندهشون. هل كل هذا في قلب الأسطورة؟!
كانا ليتبادلان هو وهي هذه الأحاديث، كما كانا يفعلان من قبل، فالمستجدّات كثيرة في البلاد، وما بين نقاش وآخر، يحفظ صورة شخصيّة لها، تُبَدّلَها عن شاشة هاتفها من وقت لآخر، مُبقياً على تحفّظه. تبتسم. لكن، مع الحجر المنزلي الذي فرضته البلاد، هل كانا سيلتقيان؟
ربّما تشي له بأنها ستخرج مضطرّة لأمر ضروري، ربّما تأتي بدواء، وتعود سريعاً إلى الحجر. إن صادفت شرطياً، تقول له الكلام نفسه. ستجده في الشارع الطويل الفارغ من البشر. يبقيان على مسافة التباعد الاجتماعي حسب التعليمات الطبيّة. يبتسمان لبعضهما. لو يُعيدان ترتيب الأرض ويبدآن وحيدَين كآدم وحواء، ولا يُنجبان، كي تبقى الأرض نظيفة. يتفرّغان لنفسيهما، لبعضهما ــ أيضاً ــ كانت لتقول له تخيّلاتها هذه.
الأرض نظيفة من الأصوات المشوِّشة. تصلها خفقات قلبه من البعيد. كلٌّ يختار سيّارة ويجلس فيها، فالبشر نحروا أشجاراً كثيرة واستبدلوها بالسيّارات والباطون. آه لو كان كل منهما يمتلك حصاناً أو حماراً، فيترافقا بجولة.
من جديد، الحيوانات في الشوارع التي كانت في السّابق، أرضها وغاباتها. كانت كل تلك السّنين مختبئة من البشر. من آلاتهم الحادّة، وبارودهم القاتل. البشر يا صاحبي ألَّفوا القصص والأساطير عن الحيوانات التي اعتبروها مفترسة، من منهما المفترس؟ الغزلان تمشي في الشّوارع. يشعرون بغربة المكان كما تشعر هي. لا تنسجم مع البشر. حين انسجمت معه كان حدثاً يشبه وجود الغزلان في شارع عريض، أرضه صلبة، أنشئ للسيّارات وليس لدعسات الغزلان، ولا لنعامة لا تجد تراباً تُخبِّئ رأسها فيه كي لا يدمع كبرياؤها أمام أحد.
يركضان في الشّارع. يضحكان. الصّمت يمتلئ بالصّدى، يمتصّ أصواتَهما. ترسمه كي تقتنع أنه ليس بشبح. تشاغب. تعرّيه. ستضع رسمتها بمتحفها الخاص. تتهامس النّساء ويتغامز الرّجال.
قبلة لثنائي أمام لوحة تضمّهما.
تنبت زهرة على شرفتها. تكسر حجرها الصحّي.
رفيف من الطّيور، سرب من الغربان، سحابة معتمة تصل إلى بلاد بعيدة كبيرة، نشأت على جثث شعوب. قضمت الغابات وشرّدت الحيوانات من أوكارها. هل شرّدت الحيوانات فحسب؟ الآن، ينزوي أهلها في بيوتهم. هل تستوعب الشعوب ما جرى؟ هل الطّبيعة تنتقم. هل الشعوب المسالمة تستعيد ماءها وسماءها؟
هلّا تركوا الخالق بحاله، وهو الذي سئمهم، فلا يسألوه شيئاً؟
كانت تودّ أن تلفّ ذراعها حول عنقه. تدفعه برفق راقصة «فالز»، ويستديران، ويطير ثوبها وشعرها. يحملها ويده على ظهرها العاري.
«زقزقة العصافير تغطّي أرجاء المدينة، أتصدّق؟!» هذا ما كانت تودّ أن تسأله إيّاه، وأموراً أخرى كثيرة، تتساءل أمامه، وتفكّر بصوت عالٍ. تلامس خدّه بنعومة الهواء. يطول شعره مرتبطاً بعصر آدم. يغطّي شعرها أماكنها الحسّاسة، كحوّاء، وهو الشقي يحبّ أن يكشف الغطاء.
هناك وسائل تواصل حديثة لم تُعطّل. لكنها خارج خدمتهما. تفرّ ابتسامة حائرة إلى السّماء. تنكسر قُبلة، وشوق كثير.
صامتةٌ الأرضُ. نَضِرَةٌ السّماءُ. النّور يُطبطب على روحها كي تنام. هناك بشر كُثر ينامون وحيدين تحت التّراب، أوقعتهم الجائحة، ولم تُلَوِّح لهم يد الوداع، يُنْقَلون بشاحنات، ويُدفنون بمقابر جماعيّة.
أوجاع في الرّوح لم تكن تُحْكى، وتبقى أسراراً. الجائحة، هي الوحيدة الذي فُضِحَ أمرها.