العنوان أعلاه (فلم ربض العير، إذن؟) مثلٌ جاهلي شهير «يضرب للشيء فيه علامة تدل على غير ما يقال لك» (الميداني، مجمع الأمثال). وقائله عند الغالبية الساحقة هو الشاعر أفنون التغلبي. وحسب رواية، فقد استشهد به امرؤ القيس عند اقتراب موته: «قاله امرؤ القيس لما ألبسه قيصر الثياب المسمومة وخرج من عنده، وتلقاه عير فربض، فتفاءل {= تشاءم} امرؤ القيس، فقيل: لا بأس عليك. قال: فلم ربض العير إذن؟ أي أنا ميت» (الميداني، مجمع الأمثال).
نحت حثي يصور كائناً نصفه حمار ونصفه حية

يضيف الزمخشري مفصلاً: «تلقى امرأ القيس حين ألبسه قيصر الحلة المسمومة عيرٌ فربض، فتطير منه، فقيل له: لا بأس عليك، فقال ذلك. يضرب في شيء تسمعه وأنت ترى ما يدلك على خلافه. وأصله أن صريم بن معشر التغلبي، الملقب بأفنون، أخبره بعض الكهان بأنه يموت بمكان يقال له «ألاهة». فأتى على ذلك ما شاء الله. ثم خرج في ناس من قومه يريدون الشام، فضلّوا الطريق، فدلهم رجل فقال لهم: خذوا على مكان كذا وكذا حتى إذا استقبلتكم قارة يقال لها ألاهة فاجعلوها على اليسار فإنكم على الطريق. فلما سمع أفنون بألاهة تذكر قول الكاهن. فلما أتوا ألاهة، نزل القوم ليلاً فلم ينزل أفنون عن حماره، فربض الحمار، فلدغته أفعى، فجزع أفنون وقال: الموت والله، فقال له القوم: لا بأس عليك يا صريم، فقال: فلم ربض العير إذا؟! فأرسلها مثلاً، ومات» (الزمخشري، المستقصى). ويقال إن أفنوناً أنشد عندما أحس بالموت هذين البيتين:
كفى حزناً أن يرحل الركب غدوة
وأترك في جنـب الألهة ثاويـا
وهناك من ينسب قصة تشبه قصة المثل إلى العاصي بن وائل السهمي، الذي يقال إنه هو من وصف الرسول بأنه أبتر، فردت عليه الآية القرآنية بالقول: «إن شانئك هو الأبتر»:
«ركب حماراً له، ويقال بغلة بيضاء، فلما نزل شعباً من تلك الشعاب وهو يريد الطائف ربض به الحمار أو البغلة على [نبتة] شبرقة، فأصابت رجله شوكة منها، فانتفخت حتى صارت كعنق البعير ومات. ويقال إنه لما ربض به حماره أو البغلة لدغ فمات مكانه» (شمس الدين الشامي، سبل الهدى).
وفي كل هذه النسخ من القصة، فإن العنصر المركزي هو «ربضة» العير- الحمار. فحين يربض العير يحل الموت. هكذا الحال في كل الروايات. ما دام الحمار سائراً، فليس هناك موت. لكن حين يربض يطل الموت برأسه.
وبهذا، يبدو كأن الحمار مركب للموت في نهاية المطاف. يؤيد هذه الحقيقة أن المسيح دخل القدس على ظهر حمار، أو على جحش ابن اتان كما يقول النص، واستقبل هناك كملك، لكن هذا كان في الحقيقة مقدّمة صلبه. أي أن الحمار حمل المسيح للصلب والموت. صحيح أنه موت ملكي، لكنه موت في النهاية.
ويبدو أن هذه الحقيقة تتأكد أيضاً في قصة بلعام بن باعور الغامضة في سفر العدد. فحين كان بلعام في طريقه إلى بالاق المؤابي، كان يركب أتاناً، ثم:
«مالت الأتان عن الطريق ومشت في الحقل. فضرب بلعام الأتان ليردها إلى الطريق. ثم وقف ملاك الرب في خندق للكروم، له حائط من هنا وحائط من هناك. فلما أبصرت الأتان ملاك الرب زحمت الحائط، وضغطت رجل بلعام بالحائط، فضربها أيضاً. ثم اجتاز ملاك الرب أيضاً ووقف في مكان ضيق حيث ليس سبيل للنكوب يميناً أو شمالاً. فلما أبصرت الأتان ملاك الرب، ربضت تحت بلعام. فحمي غضب بلعام وضرب الأتان بالقضيب» (سفر العدد 22: 23-25).
وكما نرى، فالنقطة المركزية في النص هي ربضة الأتان: «فلما أبصرت الأتان ملاك الرب، ربضت تحت بلعام». وقد فهم بلعام أن هذا يعني الموت. من أجل هذا حمي غضبه على أتانه التي ربضت. ويبدو أن ملاك الرب في القصة هو ملاك الموت. ويؤيد أن الأمر يتعلق بالموت هو أن هذا الملاك الذي غضب على بلعام لأنه ضرب الأتان تحدث عن الموت والقتل: «فقال له ملاك الربّ: «لماذا ضربت أتانك الآن ثلاث دفعات؟ هأنذا قد خرجت للمقاومة... فأبصرتني الأتان ومالت من قدّامي الآن ثلاث دفعات. ولو لم تمل من قدّامي لكنت الآن قد قتلتك واستبقيتها» (سفر العدد 22: 33-34). غير أن بلعام لم يمت بعدما ربضت الأتان لأن ملاك الرب كان هناك، وأجل الأمر. لقد أدّب بعلم وأذعره، لكنه أجل الموت.
الحمار مركب الموت، وهو على الأخص مركب موت الآلهة والأنبياء


بناء عليه، يمكن القول إن الحمار مركب الموت، وأنه على الأخص مركب موت الآلهة والأنبياء. ولعل هذا جذر كره الحمار في ثقافتنا. فهو تذكير دائم بالموت.
هذا بخصوص الحمار وربضته. أما بخصوص الحية التي لدغت أفنون والعاصي السهمي، فيمكن تفسير وجودها بسهولة. فالحية والحمار يتبادلان المواقع ميثولوجياً. فهما معاً يمثلان الموت. لذا جمعت قصة أفنون والعاصي الحمار والحية معاً. ولدينا نحت حثي يصور كائناً نصفه حمار ونصفه حية. وهو يؤكد تماثل الحية والحمار ميثولوجياً.
والحية هنا رمز للسبات والموت. فهي كائن له سباته الشتوي، أي موته الفصلي عملياً. وبعض الآلهة لها أيضاً فصل نوم وسبات. لذا فهي تشبه الأفاعي. وحين يأتي وقت سباتها تتحول إلى أفعى، وتدخل سباتها الطويل، أو تلدغها أفعى، لا فرق، وتغرق في نومها- موتها.
والحال، فإن لقب الشاعر الجاعلي «أفنون»، الذي يبدو كشخصية دينية، أو كشخصية لها صبغة ميثولوجية، يشير إلى الحية: «الأفنون الحية» (لسان العرب). بالتالي، فهو حية. لم تلدغه حية فقط، بل إنه هو ذاته حية.
وعند اليونانيين مثل هذا أيضاً. فإن كنوبوس، أي سهيل اليماني، لدغته أفعى فمات. ولدغه من قبل الحية يعني أن هذا النجم- الإله دخل في فصل قراره وسباته، أي موته.

* حمار العزير
في كل حال، فإن الحمار رمز للموت في قصة العزير في القرآن أيضاً. فقد نام العزير مع حماره مائة عام. أي دخل في سباته الطويل الذي يشبه بيات الحية. وفي إنجيل يوحنا، نرى كيف أن لا فرق بين نوم لعازر الذي هو العزير العربي، وموته: «وبعد ذلك قال لهم [أي المسيح]: «لعازر حبيبنا قد نام. لكنّي أذهب لأوقظه». فقال تلاميذه: «إن كان قد نام فهو يشفى». وكان يسوع يقول عن موته، وهم ظنّوا أنّه يقول عن رقاد النّوم. فقال لهم يسوع حينئذٍ علانية: «لعازر مات» (يوحنا 11: 11-14).
عليه، فليس وجود الحمار في قصة العزير مصادفة. فهو رمز الموت، كما أنه هو الذي أخذ في ما يبدو العزير إلى الموت.
يؤيد هذا أن الجذر (عزر) الذي أتى منه الاسم «عزير» يشير إلى الحمير: «عزَرْتُ الحِمارَ: أَوْقَرْته» (لسان العرب). وأوقرته تعني: «حمّلته: الوِقْرُ بالكسر: الثِّقْلُ يحمل على ظهر أَو على رأْس... وقيل: الوِقَرُ الحِمْل الثقيل، وعَمَّ بعضهم به الثقيل والخفيف... وأَكثر ما استعمل الوِقْرُ في حِمل البغل والحمار والوَسْقُ في حمل البعير» (لسان العرب). بالتالي، فلا فرق كبيراً بين النبي- الإله وبين الحمار. فكلاهما من جذر واحد. فوق ذلك، فإن التوقير أيضاً يعني التعظيم. كما أن التعزير أيضاً يعني التعظيم والتأديب: «التَعْزير: التعظيم والتوقير. والتعزير أيضاً: التأديب؛ ومنه سمِّي الضرب دون الحدّ تَعْزيراً. وعَزَّرْتُ الحمار: أوْقَرْتُه» (الزبيدي، تاج العروس). بذا، فالجذران يشيران إلى معنيين متضادين: إلى الموت والحياة، إلى التأديب والتعزيز.
وأخيراً لنعد إلى الحية من جديد. فقد ذهب المسيح إلى الصلب والموت على ظهر حمار. لكن أين هي الحية في قصته؟ يمكن لنا أن نجد هذه الحية في سفر لوقا، حيث وصف يوحنا المعمدان جمهور المؤمنين به، أي بالمسيح عملياً، بأنهم: أولاد الحيات: «وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعتمدوا منه يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي. فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة. ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أباً. لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم» (لوقا 3: 7-8).
أولاد الأفاعي هنا ليست شتيمة بل وصف ميثولوجي. لهذا وردت في وصف جمهور المؤمنين بالمعمدان الذي جاء للتعمد على يديه، أي جمهور المسيح. ذلك أن الإله الذي يتم الحديث عنه هنا، أي إله إبراهيم، إله مرتبط بالحية. بل هو حية بالفعل. فالآلهة الشماليون يتبدون دوماً كحيات. وإله يوحنا والمسيح من هذا الطراز. يؤيد هذا الجملة التي وردت في يوحنا: «وكما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان» (يوحنا 3: 14). ابن الإنسان هنا، الذي هو المسيح، سيُرفع إلى السماء كما رفعت الحية. فالرفع هنا يعني الموت والانتقال إلى السماء. بالتالي، فأولاد الأفاعي هم أولاد إبراهيم. وهذا يعني أن أولاد إبراهيم هم رمزياً ثعابين وحيات، لأن إله إبراهيم مرتبط بالأفاعي والحيات. بذا، فالمسيح الذي ذهب إلى الموت على ظهر حمار هو أيضاً حية بشكل ما.
* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا