عن «منشورات الاختلاف/ ضفاف» أصدر الروائي الجزائري أمين الزاوي «الباشْ كاتبْ»، روايته الرابعة عشرة التي جاءت مختلفة تماماً عما عهدناه في أعماله السابقة. يكتب الزاوي الرواية بالاعتماد على متعة ولعبة الحكاية، لكن برؤيته الفلسفية الخاصة، فالحكاية وسيلة للعبور إلى المواضيع التي يريد الخوض فيها. يكتب رؤاه الخاصة في مربع التابوهات التي تشغله وتكبّل المجتمع العربي والمغاربي. هي نصوص سردية بقدر ما تلامس نار الممنوع، إلا أنها تتطرّق بوضوح إلى هموم وقضايا الإنسان المعاصر. وأمين الزاوي روائي عُرف بالجرأة التي عوّدنا عليها دائماً في طرح قضايا المجتمع الجزائري من وجهة نظره سواء في رواياته العربية أو الفرنسية أم في مقالاته التي يكتبها في المنابر العربية أو الفرنسية. فالكاتب يطرح الأسئلة أكثر مما يقدم الأجوبة، والأدب الذي لا يهزّك من الداخل ويجعلك تنتفض سواء اتفقت مع الكاتب أم لم تتفق، ليس بأدب، وإنما مجرد مسكّنات باردة. قارئ رواية «الباشْ كاتبْ»، سيدرك تماماً أن أمين الزاوي أراد محاربة بعض أشكال الشعبوية السياسية والدينية التي أصبحت تتحكّم بالمجتمع الجزائري. يتحدث كذلك عن نظام حاول تجريد الشعب الجزائري من كل شيء إيجابي وتدميره نفسياً ومادياً خدمة لمصالح مجموعة الأوليغارشيا الجديدة ولمافيا السياسة التي تشتغل لجهات معينة والتي لم ترد يوماً الخير للجزائر.

نقرأ في الرواية كثيراً من الفقرات التي تحيل على النظام الذي رهن الجزائر لعصابة مارست القمع والتجهيل السياسي، إذ يعرض الكاتب العقلية التي يتعامل بها النظام مع الجزائر وكأنها ضيعته الخاصة، يقول الروائي: «لقد أهداهم غزلان الصحراء الجزائرية الجميلة لأنهم احتضنوه حين كان يعبر الصحراء بلا غزلان! أهداهم صحراء بغزلان حين أنقذوه من صحراء الرعب والوحدة والمتابعة القانونية».
تتحدث الرواية عن مظاهر الفساد والنفاق وما آلت إليه الأوضاع أثناء حكم بوتفليقة لغاية الحراك الذي جعل الجزائر أخيراً تنفض الغبار عن أولادها، كي يخرجوا كل ثلاثاء وجمعة آملين في جزائر القلوب وليس جزائر الجيوب التي عاث فيها المسؤولون فساداً.
إذا ما أردنا تصنيف رواية «الباشْ كاتبْ» من حيث الرؤية الأسلوبية والقاع الفلسفي، فهي تندرج ضمن ما يسمى بالرواية الحداثية، لكن يمكن القول كذلك أنها رواية سيكولوجية تبحث في تناسخ أرواح كتاب الخلفاء والملوك بدءاً بيحيى بن خلدون وابن عمار و عبد الحميد الكاتب، ونهاياتهم المؤلمة والفظيعة وعلاقة كل ذلك بإرهاصات وهواجس عمار النساخ (الباش كاتب) أحد شخوص الرواية وكاتب الرئيس.
تسرد الرواية كذلك حكاية شخصية بوب مارلي وهو اللقب الذي يُطلق على الشخصية الروائية المهدي أخريف، ذلك الفنان العفوي والصادق، الذي لا يتوانى عن خدمة غيره ومساعدة جيرانه. بوب مارلي هو تجسيد لكل شاب جزائري مسكون بحب الحياة والحرية في دولة قمعت كل أشكالها، يعيش مع قطته سانت مونيكا التي قاسمته السكن والقدر ذاته. وصف الكاتب من خلال المهدي أخريف (بوب مارلي)، المواطن الجزائري ونفسيته المتعبة، عندما كان في مركز الشرطة يروي للضابط في جلسة اعتراف سيكولوجية تفريغية جزءاً كبيراً من طفولته، لازمه في كبره وأبى ألا يبرحه.
«بعض الحكايات نسحبها معنا تحت جلدنا، لا يمكن نسيانها أو التنازل عن مكانها في الذاكرة لحكايات أخرى، لا يمكن لحكاية أن تُنسي حكاية أخرى». وصف الكاتب بكلمات مؤلمة الطريقة التي كان يحكي فيها المهدي أخريف عن موت بقرة والده وبكائه الشديد عليها، ومناداة أخته بالبايرة (العانس). وفي الوصف الجزائري تحديداً، تعتبر مسبّة للفتاة لمجرد أن أخواتها الأصغر منها تزوّجن قبلها.
تسافر مع هذه التفاصيل المسرودة بطريقة مؤلمة وواقعية، تنتفض وتحزن، لأنك متيقّن أن هذا ما يحدث فعلاً في المجتمع حيث يغرق الفرد والجامعة أيضاً في سلسلة أفكار مرضية وفاسدة وماضوية، وتبدو رواية «الباشْ كاتبْ» صادقة وجريئة في تعرية ما يجري داخل هذا المجتمع. كما أن طريقة وصف البطل لأمه هي طريقة فلسفية عميقة وجميلة جداً، فالجزائري أمومي الذوق والثقافة، يعتبر أمه محبوبته الأولى.
تحكي الرواية كذلك عن شخصية «إدير أوزلغان» المدعوّ الدا المولود الذي كان يشتغل أيام الحرب التحريرية بائعاً للورد عند سيدة أوروبية. ستورثه محلها بعد الاستقلال، وسنجد إدير يقاوم قبح الحرب الأهلية التي عاشتها الجزائر ما بين عامَي 1990-2000 بالمحافظة على تقليد بيع الورد وبالموسيقى أيضاً، فهو الصديق الحميم لبوب مارلي – المهدي أخريف.
محاربة بعض أشكال الشعبوية السياسية والدينية السائدة


كما أن الرواية تتحدث عن التعايش من خلال شخصية السيدة دانييل التي كان الدا مولود يعمل عندها، وهي تذكّر برحيل المحامية والمناضلة النسوية جيزيل حليمي التي فقدناها منذ فترة، فقد كانت محامية للدفاع عن جيش التحرير الجزائري أيام الثورة: «لم تغادر دانييل لييار العاصمة بعد الاستقلال على الرغم من موجة العنف والاغتيالات التي طاولت الجزائريين ذوي الأصول الأوروبية. اختارت أن تظل مع هؤلاء الذين دافعت عنهم ومعهم، وكان عزاؤها أن ظلت على علاقة متينة مع سيدة تدعى مريم بان شاعرة ورسامة وهي صديقتها الأكثر قرباً وهي الأخرى فضّلت البقاء في المدينة. الجزائر تسع الجميع كانت تقول لي ذلك، وتمنحني بعض النقود للتبرع بها لإمام مسجد الحي الذي يريد أن يغير سجاد قاعة الصلاة». أما أكثر جملة آلمتني حقاً، فهي عندما قالته شخصية «الباشْ كاتب» وهو يسترجع سنوات طفولته في القرية: «حين لبست نظارتي شعرت بغياب أبي». عبارة جعلتني أفكّر ملياً: هل الغياب حالة نفسية مرتبطة بالرؤية البصرية، أم أن تحقّق الحاجة يجعلنا أكثر ألماً، أي أنه لم يشعر بغياب أبيه إلا عندما اتضحت له الرؤية؟ ومن منظوري البسيط كقارئة، إن الحقيقة والمعرفة في هذه الحياة، لا تأتيان إلا والألم رديف لهما، أي أننا بمقدار ما نتعلم نتألم، وبمقدار ما نحقق ما نريد نخسر ما فقدناه.
رواية «الباشْ كاتبْ» تعالج ما يحدث في حياتنا من خلال وجهة نظر الذي يملك كل شيء والذي لا يملك شيئاً. وعبر ذلك، تحاول أن تعطينا مفهوماً جديداً يمكّننا من فهم أن الخلاص هو أحد أوجه الألم الذي يجعلنا نبدع.
في رواية «الباشْ كاتب» الكثير من الأسئلة الفلسفية التي تقدم في شكل حكايات ووقائع، من دون خطاب «مفاهيمي» أو «نخبوي». إنها رواية تكتب المناطق الخطيرة في حياتنا من خلال الحكاية، من خلال سرد سلس، وأمين الزاوي في ذلك يشبه ابن طفيل في «حي بن يقظان» أو فولتير في «كنديد». الأشياء الكبرى حين نفهمها ونتمثلها، يمكننا الحديث عنها أو تقديمها ببساطة مثيرة ومدهشة. ورواية «الباشْ كاتبْ» واحدٌ من هذه النصوص التي ستُخلد في تاريخ السرد العربي بموضوعها وطريقة سردها وبلغتها العالية ما بين الحكائي والشعري.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا