لكلِّ سوري اضطر إلى الهجرة أو النزوح خارج البلاد حكايته مع قوارب الموت، سواء في ما يخصّه مباشرةً، أم بالإنصات إلى حكايات الآخرين. مفردة «البلم» أو القوارب المطاطية، ستدخل المعجم في التعبير عن جحيم فرار «الأنفار» إلى الجنّة الأوروبية الموعودة. سيروي الحكاية من نجا من موتٍ محقّق، فيما ستطوى عشرات الحكايات المجهولة، لأن الموتى لا يروون حكاياتهم. سرديات ستجد تمثّلاتها البلاغية في مدوّنة الحرب من زوايا نظر مختلفة، تبعاً لنوع الجحيم الذي خاضه هذا النفر أو ذاك، بعدما فقد اسمه الأصلي ليتحوّل إلى مجرد رقم في مخيمات اللجوء. بالنسبة إلى المخرج السينمائي فجر يعقوب، تذهب التجربة إلى ملاذ آخر، في كتابه «ساعات الكسل... يوميات اللجوء» (دار كنعان). كانت رحلة الفرار الأولى من غرفة على السطح في مخيم اليرموك. اشتعل المخيم الذي كان الجدار الاستنادي لفلسطين المؤجلة، لتبدأ رحلة شتات أخرى. هذه المرّة ستكون الوجهة نحو بيروت، العتبة الأولى للنزوح. سيمكث نحو سنة ونصف سنة ما بين بيروت وصيدا، قبل أن يغادر إلى تركيا، العتبة الثانية نحو الضفة الأخرى من العالم. في مدينة إزمير، سيلتقط مباشرة خيط التهريب الأول. مهرّبون يعقدون صفقات «وردية» مع حالمين بعبور بحر إيجه نحو اليونان. في الفترة الفاصلة بين الإقامة المؤقتة، والصعود إلى القارب المطاطي، سيكتشف ألغاز عالم المهرّبين وعلاقاتهم الغامضة مع الجندرما التركية التي تسهّل سرّاً عمليات التهريب مقابل ضريبة يُتفق عليها تحت الطاولة، وإغراق أوروبا باللاجئين عمداً.


الحكاية الشخصية هنا تتعلّق بتعرّضه لهجوم من عصابة لبيع الأعضاء، وكيف نجا بأعجوبة، بعدما أخبر طبيب العمليات بأنه بكلية واحدة شبه معطوبة. لم يعد هناك ما يربطه ببيروت سوى مكاتبات مع «سين» التي تشبه ندبة عاطفية على الماسنجر، مقتفياً أثر شمعة متخيّلة تشتعل وتخبو في رسم خرائط الرحلة ومسالكها الصعبة. هكذا يتناوب المجاز والوقائع الخشنة في توثيق رحلة التيه بعين السينمائي في المقام الأول، من دون أن يتخلّى عن النبرة الشعرية في ترميم الخسارات. فكلما نأى بعيداً في الوحشة، تتكثّف صورة مخيّم اليرموك، أو رائحة دمشق، أو صيدا. أمكنة منهوبة تضغط بحضورها بين انتكاسة وأخرى، يحقنها بجرعات شعرية، في محاولة لتفكيك ألغاز الرحلة، واستعادة فضاءات «ساعات الكسل» النصوص الموجعة التي أرسلها إلى «سين»، وهي تباغته لحظة ملوحة الماء في الحلق. لن يلتقي طيف فيثاغورث، في جزيرة ساموس كما كان يحلم، مستبدلاً ذلك بجزيرة أخرى وبمهرّبين جدد، ونقاشات حول وثائق سفر مزوّرة: صورة و 200 يورو أو أكثر. قرّر المهرّب بمساعدة خبير الوثائق المزوّرة أن صاحب الصورة يصلح لأن يكون إسبانياً «بوجهك القشتالي هذا، يمكنك أن تعبر آمناً حواجز التفتيش والبوردينغ في المطار. لا داعي للقلق». ستفشل الخطة، إذ اكتشف المحقق اليوناني بأن جواز السفر مزوّر، وسيعود اللاجئ المؤجل إلى أثينا مرّة أخرى. صعوبة اجتياز الطريق إلى دول البلقان مشياً على الأقدام أجهضت المغامرة. فليجرّب أن يعبر المطار بجواز سفر بلغاري، لكن شرطة المطار ستكتشف التزوير مجدّداً، ولا بد من محاولة ثالثة باسم آخر، فليكن «هانز». شخص اسكندنافي بشعر أشقر وعينين زرقاوين، مقابل 4300 يورو: «عبرت نقاط التفتيش بسهولة بالغة. وكنت قد أجهزت على قنينة الفودكا تماماً عند – السكانر-، ورميت بها في السلة الضخمة المركونة عند بوابة الدخول».
تتكثّف صورة مخيّم اليرموك، أو رائحة دمشق، أو صيدا


كُتبت هذه النصوص في السويد، بعد سنوات من حدوث وقائعها، لكنها لم تفقد توهّجها، عدا البلاغة الفلسفية الزائدة في توصيف المشهد ربما على الأرجح بقصد تأجيج لحظة يصعب ترميمها بالنبرة ذاتها، بغياب العدسة وفلاتر الضوء في تأطير الكادر، ومنسوب أنزيمات الخوف صعوداً ونزولاً، وفقاً لجحيم المغامرة: «كنت منتشياً تماماً. لم أفكّر بالبلم الذي سيعبر في الليلة التالية إلى أحد الأرخبيلات اليونانية. شعرت بأنه لهب شمعة غير محتدم. كانت ألسنة النار المزيّفة قد أتت على شجاعتي». تتأرجح هذه النصوص إذاً، بين أكثر من فضاء تخييلي في مقاربة سرديات اللجوء، كأنّ قدر المخرج الفلسطيني أن يغادر غرفته في مخيم اليرموك إلى السويد، ليشتبك متأخراً مع «التوت البرّي» لأنغمار برغمان!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا