لا سبيل إلى الإحاطة ببورخس (1899 ـــ 1986)، إذ يدرك القارئ أنّ كل ما يحتاج إليه هو نص واحد من نصوصه ليغرق في رماله المتحرّكة التي لا فكاك منها. ليست مياهاً كمياه إدغر آلن بو قبله أو إيتالو كالفينو بعده، بل رمال متحرّكة لا تختلف عن الرمال المحيطة بها، لكنّك لن تميّز تفرّدها إلا عند الغرق. تبقى آثار الرمال حتى بوجود فلاتر الترجمة التي كانت وسيلة معظمنا للدخول إلى متاهاته. لا نعلم إذا ما كانت قراءته بالإسبانيّة أجمل من قراءته مترجَماً لأنّه أعظم مَنْ منح الترجمة مكانة أسمى من الكتابة، ليسدّد ضربته القاضية في دَيْن مؤجَّل إلى ثربانتس الذي حَكَمَ على الترجمة بأنّها لن تكون أكثر من ظل باهت. ولكنّ بورخس أمكر، حين أدرك روعة الظلال التي تكون أبهى من الأشياء. ولذا لم يتردّد في تصويب رصاصاته الذكيّة الصائبة إلى ثربانتس ولو بعد قرون طويلة حين كتب عن نفسه وعن ثربانتس وعن «كيخوته» وعن مغامرة القراءة التي باتت مقترنةً باسم بورخس على الدوام، هو والفردوس/ المكتبة. ليست تلك رصاصته الوحيدة، إذ منحنا ما يقرب من مئة صفحة من الرصاص المتلاحق الذي يرسم حياته في كتاب «هوامش سيرة» الذي ترجمه لنا سنان أنطون وصدر أخيراً عن «منشورات الجمل». صدر الكتيّب عام 1970 بمثابة تمهيد لطبعة أعماله الكاملة، وإنْ بات عملاً مستقلاً تنفصل فيه المقدّمة عن المتن وتبقى متّصلةً به في آن.

رصاصات متلاحقة من العبقريّ الذي انتقى مساره واعياً ولاواعياً بعيداً من مسار عائلتيه العسكريّتَيْن، وبقي يشعر بعار الفراق عن «المصير الملحميّ» إلى أن بلغ الثلاثين وأدرك أنّ ذلك المصير الملحميّ الذي تُسبغه الآلهة لا يلائمه لأنّه سيلوي أعناق المصائر والملحميّة ليكون هو هو، بلا آثار المعارك التي رسمت تاريخ عائلتيه المختلطتَيْ الجنسيّات، بل أوغل في الابتعاد إلى درجة تحويل الملاحم إلى مفارقات لغويّة باتت هي ملحمته الأثيرة، حين يبدأ كلامه عن سيرة حياته بتذكّر أنّ الشركة التي قُتل جدّه برصاصاتها هي ذاتها التي أنتجت شفرات الحلاقة التي يبدأ بها الحفيد يومه. المعامل ذاتها أنتجت سلعتين مختلفتين، ورسمت مصيرين مختلفين لبورخسَيْن متناقضين. لا نجد حضوراً واعياً لوليم فوكنر في أعمال بورخس، على أنّ أسلوب تدوينه لمفارقات العائلة فوكنريّ حتّى النخاع، إذ تتناوب المشاهد التي سترسم مصائر الأجداد والأحفاد، وإنْ كان فوكنر قد تورّط في جحيم الحروب التي لم يعرفها بورخس.
لكن مع انتهاء الطفولة، تملَّص بورخس بذكاء من فوكنر ليكتب مراهقته وصباه بمسارات أخرى لا يربط بينها وبين فوكنر إلا اللغة الإنكليزيّة (فليغفر لنا الأميركيّون الذين يصرّون على أنّ لغتهم لغة مستقلة) التي شكّلت جذر بورخس اللغويّ الفعليّ أكثر حتى من الإسبانيّة التي كان يُفترَض بها أن تكون لغته الأم. لم نظفر بأعمال إنكليزيّة لبورخس الذي أبقاها لبعض التمهيدات الموجزة لترجمات أعماله، فيما باتت الإسبانيّة قَدَره الذي لم يستسغه بدايةً، لكنّه مضى فيه راضياً وإنْ بأسلوب إنكليزيّ لا تخطئه العين المدقّقة. ولم ينج من هذه العدسة الإنكليزيّة التي يقرأ بها بورخس حتّى ثربانتس أعظم الكتّاب بالإسبانيّة صاحب أعظم عمل بالإسبانيّة: رواية «كيخوته» التي أسبغ عليها بورخس أعظم وأردأ حُكم أدبيّ حين بدت له «وكأنّها ترجمة رديئة». لم يصرّح بورخس باللغة التي بدت «كيخوته» مترجمةً منها ولكنّها الإنكليزيّة حتماً. حُكمٌ لم يكن ثربانتس ليبتهج به طبعاً، ولكنّه حكم لم يكن ليُضلّل بورخس عن جوهر عظمة «كيخوته»، أم الروايات وأعظم رواية لا تشبه الروايات في آن، حين قرأها بورخس كما يقرأ كل شيء: بوصفه مزيجاً مُحكَماً من القصة القصيرة والمقالة.
واصلت الإنكليزيّة حضورها عند بورخس منذ الطفولة إلى الشيخوخة، حتى في سنوات الدراسة التي كانت باللاتينيّة والفرنسيّة، حيث بقيت الإنكليزيّة في الظل الذي يرتاح فيه بورخس أكثر من الأضواء المباشرة. اللافت أنّه تعاملَ مع الإنكليزيّة، على عكس الغالب الأعمّ من متحدّثيها أو حتّى متابعي الأدب المكتوب بها؛ بدأ بورخس من الأضواء واستقرّ في الظل: بدأ بأوسكر وايلد وفوكنر وفرجينيا وولف وشكسبير ولكنّه استقر في النهاية في هامش الأدب الإنكليزيّ كما في أعمال تشسترتن وآلن بو وفي قصص هنري جيمس، إلى أن بدأ رحلته العجيبة رجوعاً إلى الإنكليزيّة الوسيطة والقديمة التي كانت أشبه برحلة إلى الجذور الخفيّة التي طغت عليها شجرة الإسبانيّة التي لم تكن لتغريه بتطويبها وتطويب أدبها في المكانة الأسمى التي أبقاها للإنكليزيّة ولأدبها «الأغنى في العالم». ولكن أيّ أدب ذاك؟ ليس الأدب الذي يُدَرَّس أكاديمياً في تأريخ جاف ينفر منه حتّى عشّاق اللغة، بل ذلك الأدب المنسيّ الذي كان وما زال وسيبقى أدباً صعب المنال حتّى لو حكمت الموضة الأدبيّة باستعادته موقّتاً، كمقالات تومس دي كوينسي وتومس براون، وقصائد والت وتمن الذي رآه بورخس «الشاعر الأوحد».
تولّى الشاعر والروائي العراقي سنان أنطون ترجمة العمل


لا يصرّح بورخس بمشاعره حيال ترجمة أعماله إلى الإنكليزيّة، ولكنّنا ندرك من كتب أخرى أنّها التجربة الأعظم في حياته حيث أُتيح له العمل على نصوصه مرتين: مرة بالإسبانيّة، وثانية بالإنكليزيّة التي كان الشريك الدائم فيها مترجمه دي جيوفاني. اللافت أنّ الظل المنعش الذي كرّسه بورخس للإنكليزيّة انقلب إلى أضواء ساطعة معاكسة حين كانت الإنكليزيّة بوابة عبور بورخس إلى «العالميّة» وإلى الشهرة، أكان هذا في ترجمة أعماله، أو في حضوره أستاذاً زائراً في جامعات أميركيّة يُدرِّس فيها الأدب الأرجنتينيّ من دون أن يتخلّى عن عشقه في دراسة الإنكليزيّة القديمة. لم تغيّر هذه الشهرة الحارقة بورخس، لا لأنّه عصيّ على الاحتراق، بل لأنّه يعرف نفسه، ويدرك لعنة الشهرة التي يماهي بينها وبين العمى حين هاجماه بالتوازي، ويُبدي إيقاناً مدهشاً بأنّها لن تعني الكاتب الذي بدأ اللعب متأخّراً بعدما غادرته أوهام الشباب، أو الكاتب الشيخ الذي يشير صراحة إلى أنّ أهم أعماله باتت وراء ظهره وأنّه لن يكتب أعمالاً أهم منها.
لن يتوقّف عن الكتابة حتماً، بل سيبحث عن طمأنينة الوصول بعد تلك الحياة الحافلة. يختم بورخس كتابه القصير بتمنٍّ مفرط في التفاؤل والألم في أن «يُحِبّ ويُحَبّ» كي تكتمل طمأنينته المنشودة، ولكنّنا ندرك أنّ الطمأنينة ستبقى مشوبةً بالحسرة حتّى لو تحقّقت الأماني، إذ ستبقى الأحلام؛ أحلام ذلك الأرجنتينيّ الذي لم يتخلّ عن حلمه في أن يكون إنكليزياً، ولكنّه لم يكن.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا