لا أحد ينكر أننا نعيش أوقاتاً استثنائيّة كما لو أنهّا تلك «الأسابيع القليلة» التي قال عنها القائد لينين «تحدث فيها عقود، بعدما مرّت عقود من الزمن لم يحدث فيها ثمّة شيء». لقد كشف فيروس كورونا بلا مقدّمات عريّ هذا العالم وحقيقته المغيّبة بالأيديولوجيا البرجوازيّة وأدواتها، وفسطاطين متناقضَين: أثرياء وأقوياء وبيض يديرون الكوكب لمصالحهم الذاتيّة الضيقة، وفقراء ومهشمون وملوّنون يدفعون من لحمهم ثمن المواجهة الكبرى. مواجهة بدأت بالاشتعال رويداً رويداً ولم تعد خنادقها الأماميّة أمام متاريسنا التقليديّة في سوريا وفنزويلا وإيران وكوريا الشمالية وكوبا فحسب، بل هي الآن في قلب مينسوتا الأميركيّة، وشوارع ساوباولو في البرازيل ووسط جوهانسبيرغ في جنوب أفريقيا وبالقرب من ميناء مدينة باث الإنكليزيّة. في هذه الأوقات، وفي خضم المواجهة الحتميّة، فإن أخطر ما يواجهه «الملعونون في الأرض» أنّهم يقاتلون بلا أيديولوجيا. كانت تلك تماماً مأساة رفاقنا الفلاحين الإنكليز الذين كسروا جيوش الملك، وأسقطوه، ليذهب وجهاؤهم إلى نبيل آخر متمنّين منه قبول تولّي العرش بدل الملك المخلوع. لمثل هذه اللحظة، وُجد فرانز فانون (1925 – 1961). المفكّر الثوري الأهم في النصف الثاني من القرن العشرين كتب يقول في خضم حروب التحرر في أفريقيا الخمسينيّات: «الكولونيالية (الاستعمارية) ومشتقاتها – المحليّة – لا تشكل فعلياً العدو الأخطر لأفريقيا. في وقت قصير، سنحرر هذه القارة ويرحل عنها الاستعمار. لكنيّ كلّما زاد احتكاكي بمختلف الثقافات والدوائر السياسية، تعاظمت قناعتي بأن أخطر ما تواجهه أفريقيا اليوم هو غياب الأيديولوجيا». لقد سجّل في نصوصه قلقاً تجاه محدوديّة الفكر السياسي لدى الحركات التحرريّة الأفريقيّة في مواجهة الثنائيّة القاهرة التي يفرضها الاستعمار على الناس، فتُسحق عقولهم، لتجعلهم في الفسطاطين كليهما كأنّهم ضحايا لمرض نفسي: تعساء ملونون متقبلون لدونيتهم وهامشيتهم في مربع المهمشين، أو أثرياء صدقوا أسطورة تفوقهم ونبل مَحتدهم في المربع الآخر. وكلا الطرفين متورّط في تصديق الأمرين معاً: دونيّة ذاتيّة وتقبّل لتفوّق الآخر، أو نرجسيّة متورّمة واقتناع بدونيّة الآخر. ورحل قبل أن يرى كيف هدأت الحمم الثائرة المناهضة للاستعمار مع توّلي النخب الثوريّة القيادة وطردها الشعب مجدداً إلى كهوفه وإقصائه عن التاريخ، بدلاً من البناء على وعي القطاع الأعرض من السكان الأصليين، فبرغم كل مثالبه وقصوره، هو الذي أنجز التحرير، أو أيضاً التأسيس لفضاء حرّ لتدفّق الأفكار من مختلف الجهات حول شكل الغد الأفضل ليكون خياراً إنسانياً محضاً بعد طول استعباد للبشر بالأديان والمخلوقات الأسطوريّة ومحض العنف. لذلك، أصرّ دوماً على أن الغضب الثوريّ يجب أن يتّسم بـ «العقلانيّة» بمعنى ضرورة إبقاء جذوة النضال داخل النضال لمقاومة أولئك المذعورين من تعدّد القراءات داخل الحركة الثوريّة، ويدفعون باتجاه تحويل الحزب الثوري إلى أداة في يد زعيم أوحد أو أفراد قلّة يأخذون على عاتقهم «احتكار تعريف وطنيّة شعبهم بالسمع والطاعة»، و«أنّ العقيدة الواحدة الجديرة بالاتّباع هي وحدة الأمة ضد القوى الاستعمارية»، وتحت قيادتها المنزّهة حصراً.


فانون، الفرنسيّ الأسود اختار أن يكون جزائرياً، وقتما كانت قضيّة الجزائر رمزاً عالمياً لكلّ نضالات شعوب العالم الثالث كما قضيّة فلسطين اليوم، والبرجوازي المنحدر من طبقة وسطى مرتاحة ماديّاً، وانتهى مثقفاً عضوياً ملتحماً بقضايا الطبقات العاملة والفلاحين... المثقّف النخبويّ الرفيع التعليم من الجامعات الغربيّة الذي نسج أفكاره من القتال مع الناس على المتاريس وفي الجبهات، الماركسيّ النزعة من دون أن يسقط في فخ التعالي الثوري على الفقراء، طبيب السايكولوجيا الذي وضع علمه وممارسته الطبيّة في خدمة التحرّر كاشفاً عن الخراب الهائل الذي يتسبّب فيه الاستعمار للقلوب والعقول معاً.
ديالكتيك الثورة عند فانون يقول بحتميّة تكوّن مقاومة لمواجهة الاضطهاد تتشكّل أساساً حول طبيعة العدو والمعركة في كل جبهة. لكن طموحه الثوري ألا يتقمّص المستعمَر حينئذ عقل المستعمِر ويقتصر تفكيره على حدود الفكر الاستعماري «المبسّط»: صراع سادة وعبيد، إذ إنّ المسألة التحرريّة لا تستهدف استبدال نظام بنظام بقدر ما هي بشأن تجاوز ذلك النظّام إلى شيء خلّاق جماعي ومختلف تماماً، فنحن لا نريد بعد كلّ تلك التضحيّات أن نستبدل مضطهداً أشقر بـ «مضطهد آخر ذي ملامح سوداء، أو سحنة عربيّة». معركة النّاس هي ضد الاضطهاد كمبدأ.
بالطبع هذا أمر ليس بالسهل، لا سيّما وأنت تقاتل تحت «وهج الأضواء الكاشفة للتاريخ». لكن كلّ شيء عنده يبدأ في كسر ثنائيّة السادة/ العبيد المثاليّة، المؤسطرة، وغير الواقعيّة. لحظة يتبعها نوع من الظلام وحيرة الوعي – يقول فانون - قبل أن تبدأ الأمور بالتشكلّ ببطء مع مرور الوقت، ومع تطور الصراع، «ليبزغ الوعي على حقائق نسبيّة وجزئيّة ومحدودة وغير مستقرّة تتم إعادة النظر فيها بشكل دائم من خلال التجارب على الأرض ومن الحراك الجماعي والمعاداة بلا هوادة للاستعمار». وهذه في تفاعلها ينبغي أن تنتج «أنماطاً من طرائق التفكير ومنهجيّات التقييم والسلوكيّات أكثر ثراء من تلك التي يمكن الوصول إليها اعتماداً على فكر المستعمرين» المسطّح.
إلى جانب نقده لمجمل التجربة الكولونياليّة، فإن فانون سجّل أيضاً نقداً لاذعاً للبرجوازيّات الوطنيّة وللمثقفين الأكاديميين. فهو كشف عن احتكار البرجوازيّات «الجشعة» للدولة كأداة لتمكين هيمنتها على المجتمع و«افتراسه»، كما إساءة توظيفها لتاريخ النضال المجتمعيّ لدعم سلطتها الفاسدة، معتبراً أن بعض نماذج القوميّة الشوفينيّة المعسكرة لا تختلف في طريقة تعاملها مع المضطهدين من أبناء الشعب عن الأساليب الأشدّ قمعاً التي استخدمها المستعمر، مصرّاً لذلك على أن الوعي الوطني - «تلك الأغنية الرائعة التي جعلت الناس يثورون ضد مضطهديهم ومحتلّيهم» - لا بدّ من أن تستكمل بالوعي السياسي والاجتماعي لبناء مجتمع حرّ جديد. وهو ما يشبه نبوءة نبيّ لما حدث بالفعل في الجزائر تحديداً وعشرات غيرها من دول العالم الثالث التي كسبت بالفعل استقلالاً ثميناً بدماء الناس، قبل أن تنتهي إلى سيطرة أنظمة عسكريّة أو ملكيّة فاسدة فتحت الأبواب لعودة الاستعمار في نسق هيمنة جديد (ما بعد كولونيالي) أكثر تعقيداً وأقل كلفة ماديّة على المستعمرين. أمّا عن المثقفين الأكاديميين النظريين، فهو يحذّر بشدّة من «أولئك المتنطعين الذين يريدون أن يعلّبوا تجارب الناس في صناديق نظريّات تعلموها في الجامعة ومن الكتب، أو يقرّرون الانخراط في العمل الثوري وفق معادلات مسبقَة مُغرقة في الرومانسيّة والتطرّف غير الواقعيّ». عند فانون مكان المثقف (العضوي) المناضل هناك على الأرض في «منطقة عدم التيقّن الغامض حيث يسكن الناس العاديّون، في ذلك الوعاء المملوء بغضبهم والذي من فيضانه نتعلّم شكل المستقبل الممكن». هكذا، دعا المثقف الذي دربته الجامعة إلى تجنّب الفشل التقليدي للأكاديميين في خوض نقاشات ثنائيّة الاتجاه مع الممارسين على الأرض، والالتزام بدل ذلك في التأسيس لحوار حقيقي، من دون السقوط في فخّ القبول الأعمى بكلّ ما يأتي به الناس على عواهنه. ولذا، فهو يرى بضرورة اندراج المثقفين بقيادة المتاريس مع قادة الناس العاديين بهدف تحقيق «فضاء مشترك للتنوير والإثراء المتبادل». وهنا لا يقترف فانون مجرّد هيكليّة ديمقراطيّة للنضال الجذري المنبثق من ممارسة حقيقيّة تحترم الناس وتؤكد على كرامتهم الإنسانيّة وحقّهم الطبيعيّ في أن يكونوا إطار النقاش المجتمعي وفي قلب عمليّة اتخاذ القرارات العامّة، بل ويكسر قالباً مستورداً من الغرب عن دور الزعيم الملهم الذي سيتولّى مسؤوليّة كل شيء، فالأيدي السحريّة التي ستتولى إنجاز الأمور والدّفاع عن الأوطان هي في النهاية أيدي الناس العاديين فقط.
يقول المفكّر البرازيلي الشهير باولو فيريري بأنّه في عام 1968 كان في المنفى في سنتياغو (تشيلي) فارّاً من الديكتاتوريّة العسكريّة المجرمة في بلاده بعد انقلاب 1964 المدعوم أميركياً، وكان يضع اللمسات الأخيرة على كتابه الأشهر «تعليم المقهورين» عندما زوّده أحد الرفاق الذي حضر إلى سنتياغو لنقل رسائل سياسيّة، بنسخة من كتاب جديد عنوانه «الملعونون في الأرض» كان آخر ما نشره فانون بالفرنسيّة، في الأيّام الأخيرة قبل خسارته لمعركته الشخصيّة مع سرطان اللوكيميا. يقول فيريري: «بعدما قرأت فانون، أيقنت أنّني بحاجة لإعادة كتابة «تعليم المقهورين» من جديد».
أفكار فانون ومنهجيته الثوريّة ونظرياته تركت تأثيراً كبيراً على أجيال كثيرة خاضت نضالاتها التحرريّة في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد قُرئت كتبه ونوقشت من قِبل الثوريين حول العالم من جنوب أفريقيا إلى الجزائر، ومن فلسطين إلى سيرلانكا، كما نضالات الثوريين السود في الولايات المتحدة. وما زالت نصوصه قراءة لا بدّ منها لكلّ من يتصدى للنضالات التحرريّة عبر الجغرافيات والأيّام، رغم أن بعض قطاعات اليسار الغربيّ المتهتّكة تتلعثم تجاه دعوته الصريحة للعنف الثوري كأداة تطهّر واستعادة للإنسانية لا بدّ منها في مواجهة الاستعمار والاضطهاد. بالطبع، لم تكن تلك بدعوة للعنف المجانيّ، بل اعترافاً صريحاً بحق المضطهدين في حمل أسلحتهم المتواضعة وحجارتهم وسكاكينهم لإقصاء عدّو يقصفهم بالدبابات والطائرات والأسلحة المعقدة الحديثة. فهل كان ممكناً بأيّ حال أن ينتهي الاحتلال الفرنسي بدون عنف، وسلطات باريس تعدّ الجزائر بمثابة فرنسا جنوبيّة؟
وللحقيقة، فإن فرانز فانون أكثر من مجرّد فيلسوف ومنظّر آخر ترك لنا نصوصاً ثوريّة صاخبة. لقد عاش هذا الرجل تجربة إنسانيّة مذهلة بكل المقاييس منح من خلالها كلماته المكتوبة صدى وسطوعاً لا يخفت من تعانق الفكر والممارسة وتلازم النظريّة بالسلوك الشخصيّ. والأهم من ذلك، تقديم مثال ملهم عن الالتزام الثوري الذي يتجاوز حدودنا المريحة، التي غالباً ما نقبلها كما هي خانعين. فقد تطوّع شاباً صغيراً مهاجراً من المارتينيك (جزر الأنتيل الفرنسيّة بالبحر الكاريبي) مع المقاومة الفرنسيّة للاحتلال الألماني خلال الحرب العالميّة الثانية (وكان عمره وقتها 18 عاماً)، ليصاب بصدمة إثرها من العنصريّة الفرنسيّة المتجذرّة ضد الملونين حتى الذين حملوا السلاح من أجل فرنسا، كما الأوروبيّين السجناء الذين كانوا يفضلون الرقص مع سجانيهم الفاشيست على الاحتفاء مع محرريهم الملونين. حصل بعد الحرب على درجة في الطبّ من جامعة ليون الفرنسيّة وتخصص في الطبّ النفسي، لكنّه كان يقرأ بكثافة في موازاة ذلك لهيغل ونيتشه وماركس وفرويد. وكان إبّان أيّامه في البر الأوروبيّ يختلط بكبار المثقفين الفرنسيين والأوروبيين أمثال جان بول سارتر (كتب مقدّمة ممتازة لكتاب فانون «الملعونون في الأرض» ربما تكون أفضل أعمال سارتر على الإطلاق) وسيمون دو بوفوار وغيرهما. مارس فانون الطبّ النفسي لاحقاً في الجزائر وتونس، فاطلع عن كثب على الظلم الذي يحيق بالبشر ــ محتلّين ومحتلون ــ جراء المشروع الاستعماري الذي يكسر إنسانيّة الإنسان. تلك الخبرة الأولى دوّنها في «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء» (1952)، فيما نشر كتابه الثاني «استعمار يضمحلّ» عام 1959 ثم «الملعونون في الأرض» (1961)، ونُشر بعد وفاته «نحو ثورة أفريقيّة» (1964).
أفكاره ومنهجيته الثوريّة ونظرياته تركت تأثيراً كبيراً على أجيال خاضت نضالاتها التحرريّة في النصف الثاني من القرن العشرين


لدى انطلاق حرب تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي تشرين الثاني (نوفمبر) 1954، التحق مبكراً بجبهة التحرير الجزائريّة، التنظيم الثوريّ الذي قاد النضال العسكريّ. وصار وجهاً معروفاً في أوساط الثوريين الأفارقة، لا سيّما باتريس لومومبا الذي كان صديقاً شخصيّاً له. وفي 1959، أصيب بجروح بالغة عندما انفجر لغم في سيارة جيب كان يستقلها بالقرب من الحدود التونسية الجزائرية. وقد تم إرساله بجواز سفر ليبيّ مستعار إلى روما للعلاج الطبي. وهناك نجا بأعجوبة من الاغتيال على يد منظمة متطرفين مرتبطة بالدولة الفرنسية.
وفي آذار (مارس) 1960، أُرسل فانون إلى أكرا (غانا) ليصبح سفيراً للحكومة الجزائريّة المؤقتة التي كانت تديرها جبهة التحرير الوطني. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1960، كان جزءاً من فريق مكلّف بمهمّة استطلاعية تهدف إلى فتح جبهة جنوبية على الحدود مع مالي، مع خطوط إمداد تمتد من باماكو عبر الصحراء الكبرى. وفي اللحظة الأخيرة، اشتبه الفريق الجزائريّ بوجود اختراق لتحركهم، فتخلوا عن خطتهم للسفر جواً وقادوا مسافة ألفي كيلومتر من مونروفيا إلى باماكو بالسيارة. وبالفعل فإنّ الطائرة التي كان مقرراً أن يستقلها فانون إلى أبيدجان، أُجبرت على الهبوط وقام الجيش الفرنسي بتفتيشها بلا طائل.
لاحظ فانون تراجع صحّته، فأجرى فحوصاً للدم شخّص على إثرها نفسه بسرطان اللوكيميا. وبينما كان ملقى على سرير مستشفى في تونس، كان يخطّ الصفحات الأخيرة من «الملعونون في الأرض». حاول رفاقه في جبهة التحرير الجزائريّة إنقاذ حياته، فتدبروا أمر إرساله إلى موسكو، لكن الرّفاق السوفييت هناك لم يقدّموا له شيئاً بعدما اعتبروا حالته متقدّمة. ولاحقاً رتبّ له مكتب جبهة التحرير الجزائريّة في الولايات المتحدّة رحلة للعلاج هناك في ولاية ميرلاند. وقد تبجحت المخابرات الأميركيّة لاحقاً بأنها سهّلت سفره إلى هناك رغم معرفتها بخطورة تأثيره السياسيّ ومعاداته الشديدة للإمبرياليّة الأميركيّة، وقد يكون ذلك صحيحاً بالطبع، لا سيّما أنّ الأميركيين تواصلوا في غير مناسبة مع الثوار الجزائريين بغرض معرفة ماذا يجري على الأرض في المستعمرة الفرنسيّة السابقة. لكن حالته كانت ساءت، فلم يطل المقام به ومات غريباً وحيداً في قلب الإمبراطوريّة الإمبرياليّة الأعتى، مفتقداً لمكتبه في مقر الحكومة الجزائريّة المؤقتة في تونس، ولرفاقه المقاتلين في الجزائر. وقد نقل جثمانه في ما بعد إلى مقبرة للشهداء هناك بعد التحرير. إبراهيم - فرانز فانون، كأنّك معنا.



«الاغتراب والحريّة»: اكتمال نصوص القمر الأسود
كتب فرانز فانون نصوصه المنشورة كتباً ومقالات باللغة الفرنسيّة، وكانت تجربته الفكريّة والشخصيّة والنضاليّة في أجواء العالم الفرنكوفوني حصراً. لذا لم يحظَ المتحدثون باللغة الإنكليزيّة بداية بالفرصة للاطلاع على مقالاته، وصدرت بعض ترجمات رديئة لكتبه المنشورة. لذا، فإن كثيرين من تلاميذ فانون وقرائه في بريطانيا والولايات المتحدّة كانوا سعداء بصدور مجلّد «الاغتراب والحريّة» (تحرير جان خلفا وروبرت جي سي يونغلندن ــــ بلومزبري، 2018) المعدّ بكثير من الحبّ والعناية والدقّة جامعاً النصوص كافة التي خطّها فانون ولم تُنشر في كتب بعد، خصوصاً مقالاته الكثيرة في جريدة «المجاهد» التي كانت تصدرها الحكومة الجزائريّة المؤقتة (جبهة التحرير الوطني الجزائري) خلال حرب 1954 - 1962 التي أنهت الاحتلال الفرنسي للبلاد بعدما طال لأكثر من 132 عاماً.
يقدّم مجموع نصوص الكتاب صورة بانوراميّة عن فكر فانون وتطور كتاباته عبر سنواته الثوريّة الفائرة، ويضعها من خلال مقدّمة محترفة في سياقها التاريخيّ والاجتماعيّ. ورغم أصالة ظاهرة في نصوص فانون، فإن الرّجل كان أثناء دراسته الجامعية في الطبّ النفسيّ قد تشرّب أعمال هيغل، نيتشه، ماركس، فرويد، لاكان وسارتر، وتظهر آثارها جليّة في طريقة تحليلة ونظرته إلى طبيعة الصراعات البشريّة بل حتى طريقة التعبير. وقد تفاعل فانون بنشاط فائر مع الجماعات اليسارية والمناهضة للعنصرية وتأثر بأفكار الحركة الوجودية. وقد كتب أيضاً ثلاث مسرحيات، اثنتان منها بقيتا على قيد الحياة واستُرجعتا في هذا الكتاب باسم «العين الغارقة» و«الأيدي المتوازية» وفيهما روح وجوديّة ظاهرة.
وإذا كان مجلّد «الاغتراب والحريّة» لا يكشف جوانب جديدة بشأن فانون يمكن أن تعيد تصنيف الرّجل أو تدفعنا لقراءته في سياق جديد، فإنّه مع ذلك يوفر نوعاً من اكتمال لتجربة هذا الثوري الشجاع، قمر الحريّة الأسود الجميل الذي رحل باكراً، ويقدّم وحدة فكره وتماسك نظريته الثوريّة.
يضمّ المجلد ثبتاً بقائمة الكتب التي وُجدت في حوزته، وفيها إشارات تظهر اهتمام المتعطّش بالماركسية والتحليل النفسي والفلسفة الوجودية والأدب الغربي إلى حدّ كبير. وفي المجلّد أيضاً تسجيل للأجزاء التي أبرزها فانون في هذه الكتب وتعليقاته الخاصة عليها، ما يطرح ربطاً مثيراً بين أفكاره ومصادر تكوينه الفكري والأيديولوجيّ.
يرفض فانون البهلوانيّات الليبرالية الفرنسية لتجميل وتلطيف الحكم الاستعماري باعتبارها محاولة عبثيّة محكوماً عليها بالفشل. يدين اليسار الغربيّ – وبخاصة الفرنسي – لتقاعسه عن دعم استقلال الجزائر من دون قيد أو شرط، ويتّهمه بالترويج لـ «الحلول الوهمية» الخادعة بينما بالنسبة إلى الشعب الجزائري، فإن «النظام مدانٌ في كتلة واحدة». ومع ذلك، فقد وقف فانون ضدّ أي «كراهية مستقبلية للرجل الأبيض»، والقوميّات الضيقة وسياسات الهوية القائمة على الاستياء والكراهية، وحثّ رفاقه الجزائريين دائماً على «إبعاد كل العنصرية عن أرضنا، وكل أشكال القمع ودعاهم للعمل من أجل الإنسان وإثراء الإنسانية».
تزيل رسالة فانون الموثّقة إلى المفكر الإيراني علي شريعتي شبهة طالما ألقيت عليه باعتباره من أنصار الإسلامويّة، لكنّه يقول بشكل قاطع بأن إحياء العقليات الطائفيّة والدينيّة يعوّق آفاق التحرر الإنساني ووحدة الشعب المضطهد، رغم تفهمه للدّور الإيجابي الذي لعبه الإسلام تحديداً في حماية الهويّة الوطنيّة للجزائريين في مواجهات سياسات الفرنسة القاسية.
يتم ترتيب كتابات فانون في هذا المجلّد (حوالى 800 صفحة) في ثلاثة أجزاء، بدءاً من أعماله المسرحية في وقت مبكر، وبعضها كان يعتقد حتى الآن أنها ضاعت إلى الأبد. وتلي هذه كتاباته النفسية ثم كتاباته السياسية، التي تركز بشكل رئيس على الحرب في الجزائر. والأخيرة كانت لا تزال تتمتع بسطوتها وعلّو صوتها في وجه المحتلين.
لقد تغير العالم كثيراً منذ عام 1962، فسقط جدار برلين وانهار الاتحاد السوفياتي، وتنافس الصين اليوم على مرتبة أكبر اقتصاد في العالم، وظهرت بوادر قويّة لتفكك الاتحاد الأوروبي أو تحوّله تدريجاً إلى ناد ألمانيّ بعدما ألقي باليونان إلى سجن القروض المؤجلّة وقررت بريطانيا التوجه غرباً عبر الأطلسي، فيما أثارت تحركات الأقليّة السوداء في الولايات المتحدة قلق الجميع. ومع ذلك، لا تزال نظريات فانون الثورية وتطبيقاتها في «ما بعد الكولونياليّة» يتردد صداها لغاية اليوم، ليس فقط في المستعمرات السابقة حيث تشكل الندوب العميقة لفترة الاحتلال والعنف المستمر للاستعمار والكولونيالية الجديدة والديكتاتورية والاغتراب والفقر، والبطالة والأمية وانحلال البنية التحتية والعداوة بين الأعراق والتعصب الديني صراعاً يومياً، ولكن أيضاً في قلب الإمبراطوريّة الأميركية، حيث هذه القوى والديناميات نفسها تدفع الأجندة الإمبريالية العالمية لإثراء النخب المهيمنة على حساب الأكثريّة.
كانت الماركسية جزءاً كبيراً من الهواء الذي تنفّسه فانون خلال سنوات تكوينه في مسقط رأسه في المارتينيك بصحبة أشخاص مثل الشاعر الثوريّ إيمي سيزير، وكذلك خلال السنوات التي قضاها في فرنسا وارتباطه بأشخاص مثل هنري جانسون وجان بول سارتر، وكذلك بعض تيارات اليسار داخل جبهة التحرير الوطني الجزائرية. ويقتبس فانون ويعيد صياغة ماركس بحرية في كتاباته، وحتى عنوان كتابه الأسطوري الأخير «الملعونون في الأرض» الذي أملاه عندما عرف أنه على موعد مبكّر مع الموت قد أُخذ من مقطع في النشيد البروليتاري للأممية الشيوعية العالمية. ومع ذلك، فإن الماركسية لم تكن لتمنعه من التفاوض بفاعليّة مع مفكرين آخرين، ويربط ممارسته الثوريّة بهم لا سيّما هيغل. وقد مال فانون كذلك إلى الاعتقاد بأولويّة فئة الأمة في السياق السياسي للاستعمار على فئة الطبقة، وأن الفلاحين قد يكونون الأكثر ثورية من البروليتاريا بحد ذاتها في إطار الهيكل الاجتماعي الاقتصادي للمجتمعات الأفريقية/ الكاريبية. ولذا يمكن الزّعم بأن فانون كان لا يزال يبحث عن صياغة متماسكة لماركسيّة ترتبط بظروف الاستعمار الكولونيالي قبل أن يقطع الموت سعيه النبيل، وأن مشروعه ما زال مفتوحاً وينتظر.
سعيد...