ترجمة أحمد محسن غنيموصل فتى خجول لتوّه إلى المدينة. جاء بعد مواعدة فتاته الأولى وانتهى من مشاهدة فيلمه الأول: «الطيب والشرس والقبيح» بطولة كلينت إيستوود بردائه ومسدساته. حسناً، الحقيقة أنني فزعت قليلاً حين بدا ذلك الحصان آتياً نحوناً، لكن كلاوديا كانت مستمتعة. تماسكت يدانا في الظلام. شعرت أنني أفضل من إيستوود حين عانقته الفتاة الشقراء بعدما قتل أربعة قطاع طرق ثم كافأته بقبلة. أعلم أن كلاوديا ليست شقراء، لكنّ عينيها كانتا أشد صفاء من الغروب في أفلام رعاة البقر.
خرجنا من دار العرض. اشترينا «كوكا كولا» وشطائر ساخنة من ناصية باب الشمس، ثم أقلتنا حافلة إلى البيت. كانت كلاوديا جارتي. وكان في حيّنا صالة للملاكمة اسمها «الولد الحديدي». تزامن مرورنا بها مع خروج جماعة من الملاكمين. بدأ أحدهم ـــ وكان شاباً طويلاً مفتول العضلات ـــ في مضايقتنا. في البداية سخر مني، ثم بدأ في مغازلة كلاوديا بكلمات قبيحة، وكانت هذه هي الشرارة. في تلك اللحظة، نسيت طولي الذي لا يتجاوز المتر وأربعةً وستين سنتيمتراً، وأن ذلك الفتى كان آلةً لإلقاء الضربات. لم أفكر سوى في صديقتي والحمرة التي اعتلت وجهها. رجعت. وبعينين مغمضتين قفزت فوق ذلك العجين الأسود من العضلات. لكمته مرة بعد أخرى. كان في البداية جداراً، ثم أصبحت ألكم الفراغ. فتحت عينيّ: نعم! لقد طرحته أرضاً. نظر إليّ الشارع بأكمله مشدوهاً. ساعد عجوز كان خارجاً من الصالة وقتها الشاب لينهض بينما كان يسبّه، كما ألقى بالشتائم على الآخرين. بعدها اقترب وطلب مني أن أزوره اليوم التالي في الصالة، ودعاني «بطل». أعجبني ذلك. شعرت صديقتي بالفخر. أخذتُ نفساً ونفخت صدري كمحاربٍ، لكنني في الحقيقة لم أفكر في الذهاب إلى الصالة، ولم أعطِ الأمر اعتباراً إلى أن طلبت مني كلاوديا وأنا أودّعها ألّا أنسى أن أحكي لها ما يقوله لي المدرب.
لم أخبرهما بشيء في البيت عن الشجار. قرر والداي بعد سنواتٍ طويلة من العمل بعيداً عني أن يأتيا بي إلى المدينة. كانت فرصة جديدة ولم أرِد لهما أن يقلقا أو أن يظنّا أنني مجرد مشاغب. مساء اليوم التالي، اقتربت من الصالة. أدخلني العجوز وقدمني إلى فتى المشاجرة الذي اعتذر من تحت أضراسه، وقال لي إنه لم يفهم كيف استطعت إسقاطه. أجبته أنها كانت ضربة حظّ. لكن المدرب أكد أنه منذ سنوات لم يرَ يميناً كيميني وأعرب عن رغبته في تدريبي. شرحتُ له أنني لا أعلم شيئاً عن الملاكمة. رغم ذلك، أجابني بأنه قضى حياته بين جدران هذه الصالة ولا يشكّ في كوني خامة طيبة. رماني الشاب بنظرة ازدراء وذهب ليُشعرني بأنني قزم مقارنة به. ضايقتْني النظرة لدرجة أني قبلت التدريب، وبدأت ذلك المساء. حين حكيت لكلاوديا فرحت جداً. قالت إن أبطال الملاكمة يجوبون العالم كله سفراً ويجنون أموالاً طائلة، يشتهرون ويحترمهم الجميع. وحين أخبرتها بأنني لم أكن أكثر من هاوٍ تحت الاختبار، أجابت بأنها على يقين من أنني سأكون بطلاً. حضرت التمرينات خلال خمسة عشر يوماً. في البداية، اعترضوا في البيت، لكن عمي ويليام أكد أن ذلك في مصلحتي، وعلى الرجال أن يعرفوا كيف يدافعون عن أنفسهم. وصل به الأمر أن جاء إلى التدريب بعض المرات ليراني، ويقول: «هذا ابن أخي». حلّ أخيراً يوم مباراتي الأولى. كان منافسي أقصر، لكنه قويّ البنية. أحسستُ بنفسي قوياً. كنت قد بذلت مجهوداً كبيراً. هناك بين المشاهدين كان عمي ويليام وكلاوديا: كانت نظرة اليراعة التي تمتلكها تضيء الحلبة أكثر من الكشافات الكبيرة.
الجولة الأولى كانت مدروسة. شاهدت في التلفاز ما يفعل كيد بامبيلي وشوجار راي ليونارد فيها. لكمني الخصم عدة لكمات، لكنني تفاديتها برشاقة. أصدرت كلاوديا صرخة حماسيّةً ارتفعت بين أصوات الملاكمين القوية وتجاوزت عبارة المعركة: «هذا ابن أخي»، التي تعرفون من صاحبها.
في الجولة الثانية، تفوّقت على خصمي، نجحت في إصابته في وجهه، ومن أنفه سال خيط دم رفيع. عندها تحرك حركة غريبة أربكتني. بينما كنت أحاول أن أستعيد هدوئي، تلقيت ضربة مباشرة في ذقني. رأيت نقاطاً صفراء وأنا أدور ثم وقعت. صرخت كلاوديا في فزع. سخر منها بعض الملاكمين بجوارها. أثارني ذلك، فنهضت عند العدة الخامسة وهاجمت خصمي حتى طرحته أرضاً ينزف من أنفه وفمه. صفّقت كلاوديا وردّت السخرية لجيرانها. سمعت عمي ويليام أيضاً يقول إنني الأفضل في العالم، وإنني أحمل دمه، وإنني خير أبناء إخوته.
كان كل ذلك جديداً عليّ، وكان يقع من قلبي موقعاً حسناً. لكن بمرور الأيام، وتوالي المنافسات، أخذ ينمو داخلي إحساس أن هذا ليس ما كنت أبحث عنه. كان بالي يظلّ مشغولاً بالخصوم الذين أوقعهم، وبالفراغ والحقد في أعينهم. طرد المدرب العجوز بعضهم ولم يعودوا بعدها إلى الصالة.
كان «الولد الحديدي» مكاناً رطباً، وكانت الحلبة بالية. كل ما هناك كان فقيراً، وكان الشيء الوحيد الذي يضفي على المكان لمسة بهجة تجعله يخطف الأنظار كلاوديا التي تصرخ في كل مباراة. كنا فتية فقراء نحلم بمعدات صوت قوية وأحذية جديدة وجينز أصلي. إنني في الحقيقة لم أكن مهتماً بالملاكمة. كنت هناك لأن التيّار حملني لا غير، وكان تيّاري كلاوديا وعمّي ويليام.
لم أرِد سوى أن أكون راعي غنم مثل كلينت إيستوود في ذلك الفيلم الأول الذي رأيناه، وكلاوديا ورائي على حصان في مروجٍ شاسعة. لكنها لم تكن تتحدث سوى عن الملاكمة، والأرقام القياسية، والأسفار. كانت تعرف أكثر مني عن الأمر. والأسوأ أننا لم نعد للذهاب إلى السينما بعدها. كنت أصارع وأفوز، لكن الأمر برمته لم يكن يعنيني. لو لم يكن خصومي يشتمونني ويحاولون ضربي، لما كنت لأواجههم بالمثل. ولو فكّرتُ برويّة، لوجدت أنني كنت أنتصر باحثاً عن القبلات التي كانت كلاوديا تمنحني إياها بعد كل مباراة. أربع عشرة مباراة، أربع عشرة قبلة. لم تكن الأخيرة نقرة حمامة، بل مبتلة وعنيفة بحلاوة.
جاءت المباراة الخامسة عشرة. كان خصمي ذلك الفتى الذي تشاجرت معه ذلك المساء الأول، الفتى الذي غيّر مسار حياتي. الآن سنتواجه في الحلبة. لم يكن هو الآخر قد خسر أي مباراة (باستثناء تلك المشاجرة غير الرسمية). من يفوز، سيشارك في بطولة محلية في مدينة بعيدة، مكان تحيطه الجبال ولا ينقطع فيه المطر. كان اسم تلك المدينة يبدو آتياً من الخيال.
بدت كلاوديا أكثر حماسة مني. ارتدت أفضل ما لديها من ملابس، وقبل المباراة، كانت النظرات تتركز عليها. لم ينظر أحد إلى حيث كنا نتجهز: كانت هي تلمع أكثر من أي حزام دولي بينما كنت أنا شارداً بعض الشيء. بدا خصمي جاداً ومتّزناً، ولم تصدر عنه أي حركة تهديد. دخلنا إلى مركز الحلبة وبدأنا. حتى الجولة الرابعة، كان كل شيء متساوياً. كنت ألمح بطرف عيني عمي ويليام وصديقتي اللذين كانا يتحدثان مع المشاهدين ويشيران إلى الحلبة. أحسست بحزن يلفّني، وبدت لي مدينة الأضواء بعيدة كأنها شبح. لم أرِد الذهاب إلى أماكن باردة، كنت أريد الذهاب إلى الغرب حيث رعاة البقر، على حصان بين الثيران.
ألقى منافسي بضربة في كبدي، فتفاديتها، لكنه في لحظة انقلب كحيّة ولكمني في وجهي. سقطت كبرق، لكني لم أفقد الوعي. الضربة، بدلاً من أن تنيّمني، جعلتني أرى الأشياء بحدّة غريبة. هناك، راكعاً، استطعت رؤية خصمي في إحدى زوايا الحلبة، وعمي وكلاوديا صامتين ومتأهبين، وأصدقاء خصمي يعدّون مع الحكم: واحد، اثنان، ثلاثة...! كان بوسعي النهوض، لكني شعرت بنفسي تائهاً في تلك الحلبة، أرى الأفلام التي انتهت أيامها، وكيف كانت كلاوديا لا تتحدث سوى عن مستقبل من الكؤوس والأحزمة الذهبية وإعلانات التلفاز، ولم تبدُ منتبهة إلى أنني كنت هنا، في الحاضر. أنني لم أكن أريد قبلات مقابل فوز مباراة، لم أكن أريد قبلات مقابل خوض شجار.
أربعة، خمسة، ستة... كنت أستطيع أن أُسقط الفتى بسهولة ذلك المساء، وأظن أنني لو نهضت وقتها لحافظت على فرصتي في الفوز، لكن لا. كنت هناك، على لباد الحلبة. رأيت عمي ويليام يخفض رأسه، ورأيتها تصمت. وصل الحكم إلى العشرة. لم يأتِ أحد ليقول لي أي شيء، ليس سوى خصمي الذي اقترب وسألني كيف كنت أشعر. بخير. سألني لماذا لم أنهض. أجبته: هذا الأمر ليس أمري. حاول المدرب أن يشدّ من أزري، لكني أخبرته أنني لن أعود. قال إنه كان يعرف، وإنه ما زال يراني اكتشافاً عظيماً، لكن كان ينقصني الشيء الأساسي
- وما هو الشيء الأساسي؟
-العطش يا فتى، العطش. لا أحد يبحث عن الماء من دون عطش.
لم أفهم، ولم أكن مهتماً. لم أرِد سوى الخروج من هناك، والبحث عن كلاوديا، أن أقول لها إنني ظللت على أرض الحلبة من أجلها، إنني لم أكن أريد الذهاب إلى تلك المدينة البعيدة. لا أريد أن أكون مشهوراً، أريد الذهاب لمشاهدة الأفلام، والمشي في الشوارع معها والذهاب إلى الحديقة لأقبلها هي وحدها. لكنني لم أجدها في الصالة، ولا في حديقة الحي. قالوا لي في بيتها إنها غير موجودة. وتلك الليلة كذلك لم أكن قريباً لأحد. بدأت هي في تجنّبي والتهرّب منّي، ومع الوقت قررت ألا أستمر في البحث عنها. وهكذا كرستُ نفسي لأكون راعي بقر وحيداً، من دون شقراء كشقراء كلينت إيستوود. أعتقد أنه كان لديها ذلك العطش الذي كان المدرب العجوز يتحدث عنه، وبما أنني لم أكن ماء، لم تكن من جدوى في رفقتي.
لم أستغرب ـــ ليس كثيراً ـــ حين رأيت كلاوديا بعد شهور في شارع بصحبة خصمي. كان هو قد فاز باللقب المحليّ. حيّاني بودّ وقال:
-ربحتني مرة وربحتك مرتين.
-صحيح، لكن الجرس لم يدق بعد.
ابتسم كلانا. نظرت هي إلى ناحية أخرى، إن كنت أعرفك، فلا أتذكر. وحرّك النسيم تنورتنها. ابتعدت عنهما. بدت مجمّعات البيوت والمباني المربعة كمكعبات سكر كبيرة ومتسخة: وكانت الطيور تخرج من بعض الأسطح. لم أكن أشعر بسوء، أو بذلك السوء الذي يفترض أن أشعر به. أسعدتني فكرة أن المساء كان يقترب، ولم يزل هناك الكثير من الأفلام لأشاهدها.

* John Jairo Junieles جون خايرو خونييليس (1970)، شاعر وقاصّ وروائي وصحافي كولومبي. نشأ في مدينة كارتاخينا في شمال كولومبيا. نشر أربعة دواوين، فاز آخرها بـ «الجائزة الوطنية للشعر» في مدينة بوغوتا. كما نشر ثلاث مجموعات قصصية وروايتين. يدرّس الصحافة والكتابة الإبداعية في الجامعة الوطنية في بوغوتا.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا