ترجمة: محمد ناصر الدين
في أجواء الانتخابات والسعي المحموم للوصول إلى البيت الأبيض بين دونالد ترامب، الكارثة بالمعنى الحرفي للكلمة التي حلّت على أميركا والعالم، ومنافسه جوزيف بايدن الذي لا يراهَن عليه كثيراً ولكن قد يكون «جسراً للانتقال نحو أميركا أفضل»، كما يقول بول أوستر (١٩٤٧) صاحب «ثلاثية نيويورك» و«اختراع العزلة» و«صانسيت بارك».... حماقات عظيمة ارتكبتها إدارة مجنون البيت الأبيض في قضايا تتعلّق بالهجرة والاقتصاد والتعليم والإسكان والتمييز العنصري والبيئة. أمور دفعت بصاحب «حماقات بروكلين» إلى أن يتنادى مع مجموعة من المثقفين، في طليعتهم زوجته الكاتبة سيري هوتسفيدت إلى التنديد عبر بيانات ومقابلات صحافية بممارسات دونالد ترامب وحلفه الوثيق مع الجمهوريين في سبيل تدمير مؤسّسات الحكم والقضاء على الحلم الأميركي الذي يصنع من «الأرض الجديدة»، بحسب هؤلاء الكتّاب، فضاءً مفتوحاً للأفكار والإبداع والأشخاص الذين تضيق بهم سبل العيش، ويرون في أميركا أرضاً للفرصة والمغامرة. في مقابلة مع مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور»، دق بول أوستر ناقوس الخطر، منذراً بفناء الإمبراطورية التي أنهت وجود الإسبان في قارة سادوها لقرون، ومتأملاً في نبش عظام كريستوف كولومبوس في هافانا في مطلع القرن العشرين: بالنسبة إلى أوستر، أميركا أكثر إنسانية أو سنسمع صرير عظام الإمبراطورية. ننشر في «كلمات» أبرز ما جاء في الحديث-الإنذار الذي وجّهه صاحب «في بلاد الأشياء الأخيرة».


أنهيتُ للتوّ كتاباً حول ستيفان كراين، كاتب أميركي كبير وشبه منسيّ من نهاية القرن التاسع عشر. لكن المتشابهات بين ما كتب كراين حول حولية ١٨٩٠ وما نعيشه اليوم مذهلة. «العصر الذهبي» لأميركا في نهاية ذلك القرن، كان زمن البتر بين المالكين (للثروة) وكل من تبقى: من جهة الأغنياء، الأغنياء بقوة، ومن جهة أخرى العمّال بلا حماية، بلا نقابات، ما من قانون مشرّف للعمل، استغلالٌ قذر وعنصرية إلى درجة أن ما نعرفه اليوم عن هذه الأشياء يبدو متواضعاً بالمقارنة. كل مجموعة إثنية كانت محاصرة: ليس فقط السود وإنما الصينيون واليهود والهنود الأميركيون. وبينما كنت أغوص في تلك الحقبة، كان الديماغوجي الأحمق المسمّى ترامب يباشر الخطب والمبهمات الشعبوية ذاتها: لقد كانت هذه دائماً جزءاً من أميركا، ولكن لم نسمعها قَط من فم رئيس، من شخصية تمتلك سُلطة بهذا الحجم. أسلّمُ منذ زمن طويل بأن أميركا منذ الأصل هي ثقافة منقسمة بين البشر ممن يؤمن كلٌّ بفرديته ـــ ثقافة «دعوني وشأني» وأنا حرّ في فعل كل ما أريد ـــ وأولئك الذين يقدّرون الانتماء إلى مجتمع ويشعرون بالمسؤولية تجاه الآخرين. الأمر بهذه البساطة. هناك شيء في العقلية الأميركية لا ينفكّ يتوارث: هذا الخيار بالحياة الفردية، (ثقافة) «اذهب إلى الجحيم» و«اغرُب عن وجهي». الفرنسيون عندهم بعض المظاهر من هذه العقلية ولقد صدمت أحياناً أن أرى إلى أيّ درجة يمكنهم أن يكونوا عدائيين ضد كل فكرة تحدّ من الفردانية. لكن في أميركا، يتّخذ الأمر بُعداً مختلفاً للغاية، شكلُه الأكثر تراجيدية يتمثل في الحق بحمل الأسلحة، والمعركة القضائية الأزلية حول هذا الشأن. لقد وصلنا إلى النقطة التي أصبحت فيها عمليات إطلاق النار الجماعي رائجة، وهذا هو شكل الفن الجديد لدينا: إنه لأمرٌ مرعب. نحن أمة غريبة، إذ أننا لا نواجه شيئاً مما يوجد بالفعل في أوروبا أو آسيا. أميركا هي البلد الوحيد في العالم الذي تمّ اختراعه من لا شيء.
لطالما وجِد الطغاة في كل مكان، ولكن في الحقيقة هناك جانب فريد لدى ترامب. يصعقنا أن نرى شخصاً لا يمتلك الحد الأدنى من المؤهلات، وعاجزاً في المطلق على أن يفهم فقط الوظيفة التي حصل عليها بمعجزة نجهلها، وأن يرى إلى أي حدّ أساء استخدام السلطة التي بين يديه. إنه بحق لأمرٌ مختلف عن كل ما عرفناه في الماضي، إذ عرفنا رؤساء فظيعين، ولكن ليس على هذا القدر من العمى. لقد كان ترامب قوة شريرة في العالم، وسُمّاً لبلدي.
يذهب الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك. بالنسبة لكثيرين، ترامب هو من صُنِّف بالمخلّص، أو كائن بشري خارق. أظن أن البروباغندا لعبت دوراً في هذا الاتجاه، إضافة إلى قدرته على الإقناع. ترامب أحمق بوضوح، هو يمتلك قاموساً من سبع وخمسين كلمة، لكنه خطيب مقنع للغاية لمن يحبونه. بالنسبة إلينا، هو أشبه بطاغية، ولكن هم، مريدوه، إنهم يشعرون بأنه يخاطبهم بالطريقة ذاتها التي شعر الألمان بأن هتلر يخاطبهم بها. ما فعله ترامب وهتلر معاً، هو أنهما ردّدا الأكاذيب ذاتها. إنها الجملة نفسها المنسوبة إلى غوبلز: «كذبة تُردد عشر مرات تبقى كذبة، وحين تردد عشرة آلاف مرة، تصير حقيقة». لقد فعلها ترامب قبل أن يترشح للرئاسة بالطعن في ولادة أوباما: لقد باشر القول بأن أوباما ولِد في الخارج، وبالتالي هو ليس مؤهّلاً للرئاسة. في البداية، لم يصدقه أحد، وحين استمر في غيّه، صارت طائفة من الناس تقول في سرها: «إذا كان رجل غني كترامب يقول ذلك، فلا بدّ أنه يؤمن بما يقول، وإن كان يؤمن به، فلا شك أن سمكة ما تختبئ تحت الصخرة»، وهكذا وبالتدريج، جمع حوله جمهرة من الناس ليرتفع التأييد له من الصفر تقريباً إلى حوالى ٤٠٪ من الأميركيين.
لقد تغيّر العالم، وأمامنا المئات من المشكلات التي يجب حلّها، من الصحة مروراً بإنقاذ الاقتصاد، بالعدالة العرقية والاحتباس الحراري والمساواة في الرواتب. يجب أن نرى الأضرار التي تسبّبت بها هذه الإدارة، والتي هي ثمرة الحلف الوثيق الذي نسجه الجمهوريون مع ترامب: إن سمحوا له بأن يقول كلّ ما قاله وأن يفعل كلّ ما فعله، فذلك لأنه أعطاهم ما يرغبون به منذ نصف قرن: تدمير الحُكم. لدينا إذن اليوم منظمة لحماية البيئة لا تحمي البيئة، أمانة عامة للتعليم لا تؤمن بالمدارس الحكومية، هيئة عامة للعمل لا تؤمن بالنقابات ولا بحقوق العمّال، ووزارة داخلية لا تحمي الممتلكات العامة، وهيئة للإسكان والتنظيم المدني لا تؤمن بالمساكن الاجتماعية، وهيئة للأمن الداخلي لا تؤمن بالهجرة، ووزير للعدل يفسد استقلالية القضاء. كل هذا في أقل من أربع سنوات. بعد يومين من انتخاب ترامب عام ٢٠١٦، جاءت قناة BBC لمقابلتي، وكنت أبحث عن استعارة مناسبة لوصف ما حصل، فقلت لهم: «أثناء حرب الانفصال (١٨٦١-١٨٦٥)، كان الأميركيّون بشكل عام يميلون إلى الاعتقاد بمؤسساتهم: الميثاق، أولوية الحقوق، التداول السلمي للسلطة العليا، مؤسسات هي دعامات أساسية للمجتمع. هذه الدعامات كانت صلبة في عقول البشر، على نفس القدر الذي كانت عليه إنشاءات الغرانيت المقاومة للزمن». لكني أضفت: «ثم اكتشفنا منذ ذلك الوقت أن تلك الدعامات لم تكن من الغرانيت وإنما من الصابون، وأن ترامب وإدارته يفتحون الصمّامات على رسلها، سوف نرى هذه الإنشاءات تتداعى وعما قريب نرى الرغوة تسيل في المجاري». أظن أن الاستعارة لا تزال قائمة.
يشعر المريدون بأنه يخاطبهم بالطريقة ذاتها التي شعر الألمان بأن هتلر يخاطبهم بها


نتكلم دائماً عن الاستثناء الأميركي: أميركا دائماً مختلفة، ولطالما شعر الأميركيون أنهم مختلفون. كان هذا الزعم أقرب إلى الحقيقة، إذ كان الناس يلجأون إلى هذه البلاد حين يلفظهم أي بلد آخر، وحين تضيق بهم سبل العيش. لقد كانت أميركا الخيار الأول للعالم بأسره، والكل يرغب في القدوم إليها، لكننا لم نرحّب دائماً بالقادمين. لقد مررنا بفترات مناهضة للهجرة في بداية القرن العشرين إلى درجة أنها مُنعت بالكامل بين عامَي ١٩٢٤ و١٩٦٥. لم يكن ممكناً لأحد أن يهاجر إلى البلاد خلال أربعين عاماً، إلى أن أعاد الرئيس جونسون فتح الأبواب، ولحسن الحظ، وإلا كانت البلاد ستكون مملة مثل سويسرا. بالعودة إلى ستيفن كراين، لقد سافر عام ١٨٩٨ إلى كوبا كصحافي، أثناء الحرب الأميركية-الإسبانية. كانت هذه السنة تحديداً هي بداية القرن الأميركي، إذ طرد الأميركيون الإسبان من العالم القديم الذي سادوه لأربعمائة عام، أربعمائة عام كاملة! دخل كراين هافانا في اللحظة التي كان يتم فيها نبش عظام كريستوف كولومبوس لإرسالها لدفنها في إسبانيا، كانت تلك لحظة النهاية لها (إسبانيا). هل يحتمل أننا في لحظة نهاية أميركا؟ لست أدري.

* اقتباسات من مقابلة بول أوستر مع فيليب بوليه، مجلة «لونوفيل اوبسرفاتور» الفرنسية ــــ الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠٢٠.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا