يأتي كتاب «تشومسكي: الأفكار والمثل» للمؤلّفَين أستاذ اللسانيات في «كلية لندن الجامعية» والعضو الفخري في «جمعية اللسانيات الأميركية» نيل سميث والمحاضر الأقدم في اللغة الإنكليزية في «جامعة أوسلو» نيكولاس آلوت (دار الرافدين ـــ ترجمة العراقي الهادر المعموري) بمثابة غوصٍ وإبحارٍ عميقَين في حياة المفكّر الأميركي الفذ، نعوم تشومسكي أستاذ اللسانيات في أحد أهم المعاهد العلمية في العالم «معهد ماسوشيستس للتكنولوجيا» (MIT) منذ أكثر من ستين عاماً، وصاحب «قراصنة وأباطرة» كتابه الأشهر، فضلاً عن قرابة المئة كتاب ودراسة حول اللغة وارتباطاتها السياسية والاجتماعية. لا يحاول الكتاب مقاربة حياته اليومية المباشرة بمقدار تناول حياته التي أثرَت وأثّرت على كثيرين سياسياً، اجتماعياً وثقافياً. ينقسم الكتاب الكبير إلى خمسة فصولٍ كبيرة: مرآة العقل، الأساس اللغوي، اللغة وعلم النفس، الواقعية الفلسفية: الالتزامات والاختلافات، اللغة والحرية. ويتضمّن كل فصلٍ عدّة أقسام وفروع تطول وتقصر بحسب حاجة كلّ فصل. يتقدّم الفصل الأوّل تقديماتٌ للطبعات الثلاث للكتاب (هذه هي الثالثة حتى الآن)، وقد أصر المؤلّفان على إدراجها في عملهما نظراً إلى أهميتها. يشرح المؤلفان، وخصوصاً سميث (تولى إنتاج الطبعتين الأولى والثانية) كيفية اهتمامه في كل طبعة بأن يقدّم تشومسكي كما هو دون رتوش، بأفكاره وآرائه. وهو يعي أنه إذا ما أخطأ في ذلك، فذلك خطأه هو، لا تشومسكي.


إذ إنه حينما أرسل الكتاب لتشومسكي، عاد الأخير وأرسل له تصحيحات ومقترحاتٍ تمتد على 60 صفحة كاملة. في النسخ الأحدث (الطبعتان الثانية والثالثة)، تمت إضافة آلوت إلى العمل، لزيادة ودعم الكتاب خصوصاً بالأبحاث الجديدة وتنقيحه أكثر فأكثر، نظراً لأنه «زادت المخاطر المحدقة بهذا العالم، وتزايدت واتّسعت التطورات الآنية والعلوم الإدراكية، وحيث استمر تشومسكي بتقديم مساهماته الأكاديمية المؤثرة.. لذا بدا من الضروري توسيع أفق التأليف، فكان الواجب إشراك نيكولاس آلوت الذي يملك كل المعرفة والخبرة المطلوبة لإنجاز هذا العمل». يشرح الكتاب في مقدّمته الأولى، أهمية تشومسكي: «لقد أطلق تشومسكي قطة داخل قفص حمام الفلاسفة» و«بمعزل عن تأثيره الأكبر على اللسانيات والفلسفة وعلم النفس، كان لتشومسكي تأثير آخر وإن كان مهماً على بعض العلوم الأخرى من علم الإنسان إلى الرياضيات، ومن التعليم حتى النقد الأدبي». ويعترف سميث بأنه يخشى «اختصاره» لأفكار تشومسكي، مستعيراً جملة ليوناردو دافنشي الشهيرة: «تسبّب الاختصارات ضرراً بالمعرفة»؛ لأن مؤلفات تشومسكي الكثيرة «عقّدت» هذا الأمر كثيراً عليهم.
وإذا ما كانت الفصول الثلاثة الأولى تتناول الجوانب المرتبطة حرفياً بالعلوم التي قاربها تشومسكي خلال حياته، فإن الفصول الأخيرة هي أقرب إلى السياسة منها إلى المادة العلمية البحتة، حيث أجريت تعديلات وإضافات على هذه الفصول لمقاربة ما يمكن اعتباره نوعاً من الأبعاد السياسية الكثيرة للمفكر الأميركي. يقارب الفصل الأول ميادين اللغة ودراستها داخل «سياق أوسع كجزء من بحث عملي معمّق في طبيعة النفس البشرية. يشتمل هذا الكلام على مناقشة بنية العقل، مع أدلة مستقاة من دراسات عن منجزات تشومسكي». بعدها، يغوص الفصلان التاليان في «المضامين النفسية والفلسفية لعمل تشومسكي» من خلال عناوين مثل «معرفة اللغة» و«اللسانيات الإسبارطية عناصر النحو التبسيطي»، و«شروط النحو الكلي»... لينطلق الفصل الثالث نحو «السؤال المحير بخصوص مغزى ما تعنيه الحقيقة النفسية، ويقدم أدلة عليها من خلال معالجة اللغة عبر اكتساب الطفل للغته الأولى، فضلاً عن انهيار اللغة لأسباب مرضية»، ناهيك بـ «مناقشة حلّ تشومسكي المحتمل لمعضلة أفلاطون ممثلاً في الكيفية التي يستطيع الأطفال بها اكتساب لغتهم الأولى على أسس من أدلة ومرتكزات محدودة جداً». في الفصل الرابع، ذهب المؤلفان إلى «تفسير أكبر وأوسع لبعض التعقيدات الاصطلاحية والموضوعية» التي دفعت كثيرين إلى «سوء فهم» أو «شرح» تشومسكي كمفكّر ضمن مجتمع الفلاسفة، فيما يختتم الكتاب بالفصل الخامس وهو الفصل السياسي البحت.
الفصول الأخيرة أقرب إلى السياسة منها إلى المادة العلمية البحتة

إذ يتناول مثلاً ظاهرة «الربيع العربي» والتطورات في الشرق الأوسط وتداعيات 11 أيلول، و«داعش»، والتهديدات بحروبٍ نووية. يتناول هذا الفصل أيضاً – وإن كان ظاهره الكوارث التي حلّت أو ستحل بالبشرية – جوانب أكثر إشراقاً من خلال حديثه مثلاً عن حركة «احتلوا» (بدأت في عام 2017 باحتجاجات «احتلوا وول ستريت»)؛ أو عن تقبل البشر للآخرين المختلفين (كالتمييز العنصري والجنسي).
هو جهدٌ كبير تبذله «دار الرافدين» عبر ترجمة وتقديم كتبٍ مشابهة. جهدٌ تحتاجه المكتبة العربية باستمرار، إذ إن غياب هذا النوع من الكتب عن المكتبة العربية يُعتبر خسارةً كبيرة، لسببين بسيطين: الأوّل مرتبطٌ بالمعرفة حصراً، والثانية بمقاربة صناعة أفكار فلسفية مشابهة، إذ إن عدم احتكاك المفكرين العرب ومعرفتهم بأفكار الفلاسفة الغربيين مشكلةٌ كبيرة وعميقة. ونتحدث هنا عن جيلٍ أصغر سناً، في دولٍ عربية بمعظمها لا تجيد اللغة الإنكليزية الفلسفية-المعقّدة، مما يجعلها لا تتعرّف إلى هؤلاء الفلاسفة، إلا عبر مقالاتٍ مترجمةٍ لا تفيهم حقّهم وقد يطرأ عليها التعديل بحسب خاطر المترجم والجهة الناشرة. وبالعودة إلى الكتاب، هو عمل مهمٌ للغاية، يتناول حياة واحدٍ من الفلاسفة القلائل الكبار الأحياء في عالمنا المعاصر. فيلسوف كتب تقريباً في كل شيء، من الرياضة إلى الفلسفة، مروراً بكل الكل بينهما. ونشير إذا ما اعتقد بعضهم بأن لغة الكتاب قد تكون صعبةً بالنسبة إلى عدد من القراء، فإن اللغة في كثيرٍ من الفصول سهلةٌ ومرنةٌ للغاية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا