«تأتي أعوامي بوجوه جانبية، بروفايلات متقلبة لا تلبث أن تزول، لكن عمري المديد يلتقط جانبها الظليل كما يلتقط وجه الحياة الخاطف كبرقٍ لامع لا يدوم أمام النظر سوى لمحة. جمعَت هذه التجربة ما لا يقل عن تسع صور جانبية، ظهرت وراء مصابيح دوارة، في مكان هو أشبه بمتحف طبيعي، ما لبثت أن انسحبت وخلّفت وراءها ظلالاً كاسفة». هكذا يصدّر القاص العراقي محمد خضيّر (١٩٤٢) مؤلّفه الجديد «كتاب العقود/ سرديات» الصادر حديثاً عن «منشورات الجمل»، الذي يكشف فيه صاحب «بصرياثا» و«حدائق الوجوه» عن وجوهه المئوية، وبخاصة ذلك «الوجه المطبوع في طين الأنهر»، وانعكاساته في مرايا تمحو الآثار والشواخص والوجوه، وحيث تختلط سيرته وتجربته الإنسانية بتجارب من التقاهم من الأيتام وأبناء السبيل والمجاذيب والفخارين والحناطين والسقائين والوقادين... لنجد أنفسنا في مشغل مكتظ بأيقونات جُبلت من طين النهر الأحمر وتُستعرض أسماؤها على التوالي: من ميم المكاري إلى ميم الصرّاف والتلميذ والمشعوذ والقاتل البريء والنقاش والمسافر والعطار والبستاني والنساخ: يدخلنا خضير إلى مشغل تماثيله السردية الذي هو أشبه بمشغل جياكوميتي. لكن مينيمالية جياكوميتي لا تتناسب مع حجم الألم الذي يحمّله خضيّر لأيقوناته، هو ميم الفخار الذي «يمنح المواليد المجهولين البلاد التي أحرقت سجلاتها المدنية، وأعادت تسمية أبنائها المتشابهين في السحنة والمخاض والحياة والموت بحروف صمّ لا تورَّث إلا لأمثالهم ممن يحملونها».

إنها لغة محمد خضير التي ألفناها في «أحلام باصورا» و«المملكة السوداء» التي يختلط فيها النفس السردي بتلك الضربات اللامعة الموغلة في الشعرية التي تقذف النص في قلب الفانتازيا: «أبدأ بالتمثال الأول، أنخزه بإصبعي كي ينطق ويتحرك، فيشير بإصبعه المبتور إلى أصحابه على الرفّ، ويومئ إلى نفسه أولاً».
على طول الصفحات المئتين للكتاب، نحن أمام أنطولوجيا سردية تبدأ من العقد الأول حين «ولد الوجه عام ١٩٤٣، وهو عام حرب انتحر فيه ستيفان زفايج، ولكن ما عاد هذا يعني أحداً اليوم، كما لا تعني الأسماء الزائدة»، والطريق إلى كوخ القابلة «الإبلية» في موسم إخصاب النخل، لتكرّ سبحة السرد من العقد العشرين، حيث ينطلق «الرجل الصغير» ليرى الهور والقمر إلى التسعين حيث يسوقه أبناؤه إلى مكان منخفض عن الأرض، وحيث يفتح مدير المكتب سجلاً كبيراً و«قيّد اسمي وعمري ومكان سكني وتاريخ أمراضي وغيرها من معلومات مشتركة بين الأشخاص الذين بلغوا التسعين وجُلبوا إلى هذا المكان»: إنها أحوال الظلال في بروزها وكسوفها، بين السعادة والغم، والطمأنينة والخوف، وتجليات التجربة التي تخترقها تأملات تطرز السرد كتلك التي تتناول أفكار ثيورداكيس اليوناني عن الألم الجسدي في فصل «الثلاثون»، وفانتازيا شعرية ساخرة في محاكاة لأجواء مهرجان شعري في البصرة في فصل «الأربعون»، حيث يتصدر شاعر «عنكبوت» أحدب المشهد يستلهم تارة أجواء ادغار آلان بو أو يعارض قصيدة ماياكوفسكي الشهيرة بقصيدة «لزجة» عنوانها «ساعة في بنطلون»: «النهر مرقش بالأضواء/السفن تطفو كسلاحف مقلوبة/ والسلطعونات تنشب فكوكها في عنقي/ انهضي أيتها الأرواح الغريقة/ سأعزف الليلة على مزمار عمودي الفقري».
في العقد السردي السبعين، ينسج محمد خضير منمنمة تاريخية يبدو فيها الألم رمحاً انطلق من بغداد العباسية ليستقر في حاضر العراق الذي حوّل الطغيان رافديه شريانَين ينزفان دماً وألماً: «رتبت إدارة السجن واجبات ليلة الإعدام بتتابع زمني صارم، لا تفلت منها حلقة لطارئ ليس في الحسبان، كالطارئ الذي دخل على الجثث السبعين المسجاة في مقلع العيون. سيفتقد الدفّانون في الحلقة الأخيرة من دورة الأربعاء اثني عشر معدوماً سرّبتهم روحٌ متسللة إلى محجر السجن قبل نقلهم في وجبتين إلى قبرهم الجماعي. ما حدث في ساعة الفجر من تلك الليلة أوقف أحكامَ الإعدام غير المنفَّذة إلى وقت غير محدّد، وقلب نظام السجن رأساً على عقب. كان السجن المركزي قاعدة الهرم البربري الرهيب، فلما خُرقت بذلك الحادث القدري، تصدع قضاؤه واختلطت الأحكام المبرمة بتلك المفاجِئة. سنطلق على هذا المتسلل الغريب اسم «يوحنا النوتي» وننسبه إلى أسرة بختيشوع الطبية التي خدمت في البيمارستان الذي أنشأه هارون الرشيد في بغداد. أطبق النوم على برابرة السجن، فتسللت الروح إلى المقلع، واختارت اثنتي عشرة جثة من الفئات المعدومة، وأركبتها القارب المنتظر في دجلة، وانحدرت بها نحو واسط، مع شروق الشمس. سنخصّص لهذا الفرار سطوراً في تاريخ الأسرة البختيشوعية التي طبقت أبحاثها لعلاج المرضى المجانين والمجذومين في بيمارستانات بغدادالعباسية.
منمنمة تاريخية حيث الألم رمح انطلق من بغداد العباسية ليستقر في حاضر العراق

فإن شكَّ بعد اليوم مؤرخ يحقق في هويات الأطباء الذين اقتلعوا عيون سجناء السجن المركزي بانتسابهم إلى الحلقة المفقودة من سيرة الطقوس البربرية، فإنه لن يخطئ في ضمّ النوتي المنقذ إلى جماعة طريق البشارة». كما أن أمبيرتو إيكو يظهر في الفصل الأخير حول الموت جالساً في مكتبته ويقول: «باعتبارنا كائنات بشرية، عندما نقول «أنا»، فإننا نعني ذاكرتنا. الذاكرة هي الروح. إذا فقد شخص ما ذاكرته، فإنه يصبح كالنبتة لا يعود يمتلك روحاً بعد الآن». القاص الذي خلّد البصرة في «بصرياثا» الكتاب الذي قارع في جمالية مقاربته للمكان «داغستان بلدي» لرسول حمزاتوف و«الطريق إلى غريكو» لكازنتزاكيس، و«اسطنبول: المدينة والذكريات» لأورهان باموق، يحمل نبتة الذاكرة والتجربة والتأمل في «كتاب العقود» ويضخ فيها الروح حتى الرمق الأخير وفق معادلة واضحة: تنتهي الحياة حين تنتهي الحكاية. فعند الصفحة الأخيرة، يشهر رغبته بوجه ملك الموت: «أنت تعلمين يا خليلتي أني لا أرغب في مزيد... إذا كان لي أن أطلب، فلن أطلب إلا ما طلبه أبو داوود جدي. قال للملاك الذي سأله حين جاء ليقبضه عما يريد: رأساً برأس». كتابة محمد خضير تسلخ مئات الجلود وتلبس مثل عددها: «لعلني كنت يوماً دنانير المغنّية، أو تاييس الخاطئة التي حملها طائر الموت في مخالبه وألقاها من شاهق ليتقطّع جسدها الجميل أجزاءً على الصخور ويصبح طعاماً للنسور والحيات».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا