باسم المرعبي

إذا أردتُ أن أذهب مذهب ماركيز الى اعتبار جملة شفاهية، نتاجاً أدبياً، يمكن القول إن أول جملة شعرية كانت لي وأنا بعدُ، في الثالثة أو الرابعة من عمري، جملة قد يصعب تصوّر صدورها من طفل في مثل هذه السن. ولطالما أعادها والداي على مسامعي في ما بعد كمأثرة من مآثري الطفولية. هذه الجملة التي سأعود إليها لاحقاً، كانت تعبيراً عن حب يكاد يأخذ منحىً تراجيدياً!
لكن بعد نحو عشر سنوات من جملة الحب، تلك، أي في سن الرابعة عشرة، وجدتني منغمساً في عالم الورق، قراءةً وكتابة. وإن بدأتْ قراءاتي، مبكراً، لكن مع مرحلة الدراسة المتوسطة اتسمتْ، بالنضج أكثر، فخلال واحدة من العطل الصيفية، مثلاً، أجهزتُ على نجيب محفوظ. كنتُ لا أوفّر أي كتاب يقع تحت يدي، وكان لتلك القراءات تأثيرها حين بدأت أميل الى الكتابة. انجذبتُ أولاً الى كتابة القصص، مقلداً ما كنت أقرأه، حتى إني كنت أكتب عن أمكنة لم أرها أو أعرفها. في غمرة مثل هذا التأثر، كتبتُ قصة بعنوان «سفاح الإسكندرية»، وهي ذات حبكة بوليسية! لكن في الوقت ذاته، تعلمت أن الكلمات يمكن أن تكون وجهاً آخر للألم مثلما هي للحب أو الفرح أو لمجرد التعبير الخالص عن البراعة. فكانت قصة «الذئاب لا تعرف الرحمة»، والعنوان هو تقليد لعنوان مسرحية للكاتب المصري محمود دياب، «الغرباء لا يشربون القهوة». القصة كانت طويلة تدور حول فلاح يعاني ظلم الإقطاعي مالك الأرض التي يعمل فيها، وحين يضيق به الحال يقصد المدينة ليشكو الإقطاعي الى السلطات، فما كان من مفوض الشرطة الذي استمع إلى شكواه إلا أن قام بجلده وسجنه. والمفاجأة أنّ قصتي هذه قُدّمت كمادة رئيسية (قصة البرنامج) في برنامج إذاعي يُبثّ من إذاعة بغداد، يُعنى بنتاجات الشباب اسمه "أصوات جديدة" أو "أصوات شابة"، وقد بدأتُ بمراسلة الإذاعة بانتظام منذ عام 1974. كان اهتمامي موزعاً بين القصة والشعر، وأحياناً الرسم، كذلك كانت هناك محاولات مسرحية على المستوى المدرسي. بهذا الصدد أتذكّر تعليق أحد المدرسين، وقد ضاق بي بسبب تكرار خروجي من الدرس لمتابعة التمرينات في مسرحية كتبتها وأخرجتها، فقال لي، حانقاً،هل تريد أن تصبح نجيب محفوظ؟ لم أجبه، لكن في سرّي صححت له: المفروض أن تقول شكسبير!
كان لقصائد الديوان الأول موقفها الجمالي المضاد، إن على صعيد التقنية المستخدمة أو الموضوع

في الصف الثالث المتوسط، كنت قد قرأت نتاجي في أمسيتين مختلفتين أمام جمهور عام في مدينتي، واحدة للشعر والثانية للقصة. وهو نوع من اعتراف أوّل. مبكّراً أيضاً، دأبتُ على النشر في الصحف والمجلات العراقية والعربية. وأوّل مكافأة نلتها عن نص قصير لي، كانت في عام 1976، أي وأنا في السادسة عشرة، يتحدث عن أطفال «تلّ الزعتر» الذين قضوا عطشاً، في المجزرة المعروفة التي طالت المخيّم. النص نُشر في مجلة «الدوحة» القطرية وكوفئت عليه بمبلغ خمسة دنانير وهو مبلغ جيد في تلك الأيام، وقد سافرتُ الى بغداد وجلتُ على المكتبات لأقتني من بين ما أقتني ثلاثة أعمال للطيب صالح، على رأسها رواية «موسم الهجرة الى الشمال». في عام 1978 نُشرت لي قصيدتان في مجلة «الطليعة الأدبية»، أرسلتهما بالبريد. وبهذا أكون أول شاعر مما يُسمّى بجيل الثمانينيات ينشر في هذه المجلة.
حين اطلعتُ، في مجلة عربية، بداية عام 1988، على إعلان الناشر والصحافي رياض نجيب الريّس عن جائزة شعرية باسم يوسف الخال، قلت هذه هي الفرصة التي أنتظرها، فلم يكن من شروط تتعلق بالكتابة ذاتها، سوى شرط الإبداع، وهذا جلّ ما يطمح إليه الكاتب، وكان أذكى ما في هذه الجائزة أن لا يكون للمشارك ديوان شعري منشور من قبل. أي أنها تعطي فرصة ثمينة لمن لا يريد أن يدفع مالاً لنشر كتابه ولا الخضوع لسقف المؤسسة الرسمية إذا ما وافقت على أن تنشر له كتاباً وفق شروطها المتعسفة المنافية لحرية الشاعر وموقفه، فنياً وسياسياً، وخصوصاً لدينا في العراق، آنذاك. كان لقصائد الديوان موقفها الجمالي المضاد، إن على صعيد التقنية المستخدمة أو الموضوع، حتى إنّ أديباً عراقياً معروفاً، وفي معرض تعليقه على خبر صدور الديوان وفوزه، عام 1988، أشار الى ثيمة «الحرية» فيه. وحقاً، كانت الحرية ثيمة أساسية، في المجموعة، الى جانب المرأة. وقد ضمّت، في عمومها، نصوصاً متحرّرة من الوزن والقافية، عدا بضع قصائد أفردتُها في ملحق، لأقول من خلال هذا التجاور إن قصيدة النثر ــ رغم إشكالية التسمية ــ هي خيار أو مقترح آخر إزاء قصيدة الوزن، وهو ما أؤمن به حتى اليوم، فقد أصدرتُ بعد كتابي الأول ذاك حوالي عشر مجموعات ما زلتُ أضمّنها شيئاً من قصائد التفعيلة، تأكيداً لهذا الفهم. كانت مجموعتي الأولى خلاصة وتقطيراً لتجربة سنوات، أنجزتُ خلالها عشرات القصائد المكتوبة وزناً أو نثراً، منذ أواخر السبعينيات وحتى لحظة جمع الديوان، وكان هاجس كتابة شيء مختلف يستفيد من دون أن يستنسخ، طبعاً، ما اطلعت عليه من تجارب الشعر والأدب عموماً، عربياً وعالمياً، هو الهاجس المحرّك، في كتابة جلّ نصوص المجموعة، وخصوصاً غير الموزونة، لذا كنت مطمئناً إلى مستواه. وربما تكون إشارة الناقد غالي شكري في كتابته عنها والتي ظهرت في ما بعد في كتابه: برج بابل/ النقد والحداثة الشريدة، إضاءة لما قصدته قبل قليل، حيث يقول: «باسم المرعبي صاحب مجموعة «العاطل عن الوردة» شاعر متمرّس، مهما كانت هذه مجموعته الأولى المنشورة بين دفتَي كتاب». كما أشار الكاتب صلاح عبدالله في «الناقد» الى أن المجموعة تجاوزت ما سماه صدمة الولادة واستحقت الجائزة. وبخصوص المؤثرات في المجموعة، كان لدراستي المسرح وشغفي بشكل خاص بنصوص يوجين أونيل وأوغست سترندبيرغ أثره. أما على الصعيد الشعري، فيمكن أن أُعلن انحيازي الى المديات التي اقترحها الشاعر العراقي صادق الصائغ في مجموعته «نشيد الكركدن» الصادرة عام 1978. ولوتريامون في «أناشيد مالدورور». لقد استوقفني في تعريفكم لصفحتكم هذه، تعريف الكتاب الأول بالبيان، وهو تعبير موفق جداً، نعم يمكن اعتبار «العاطل عن الوردة" نوعاً من بيان أول. وقد صدرتُ هذا البيان ببيان، بالمعنى الحرفي، وكان بعنوان، «قبل أن...»، قلت فيه: باسم الشعر أمنع الركام أن يعلو/ وباسمه أدعه يعلو. هذا ما أطلبه من الشعر. أما عن الاحتفاء فقد كان كبيراً، سواء بتغطية الجائزة، إخبارياً أو بالمقالات التي تناولت المجموعة الى جانب مجموعتَي الصديقين يحيى جابر وخالد جابر يوسف الفائزتين بالجائزة أيضاً. لقد كان الاهتمام والانتشار المفاجئ لاسمي عربياً يذكرّانني بمقولة اللورد بايرون أنه استفاق ذات صباح فوجد نفسه مشهوراً. ويكفي أي شاعر أن يقوّم تجربته ويكافئها شعراء وكتاب كبار مثل أُنسي الحاج ونزار قباني ورياض الريّس. لقد ارتبطت هذه المجموعة لديّ بالنجاح، هذه هي رؤيتي لها، بعد مرور أكثر من سبعة وعشرين عاماً على صدورها. وقد صار عنوانها يظهر لدى شعراء وكتاب آخرين، فأنت تقرأ «العاطل عن المرأة» أو العاطل عن الحب أو الموهبة، وغير ذلك من سياقات لم تكن قبل ظهور عنواني هذا، عدا عما هو مأخوذ حرفياً من المجموعة أو مقلّداً بشكل فج.
أما ما تبقى من كتابي الأول في ما تلاه من كتب، فأقول بَقي الإيمان بالشعر وهاجس الاختلاف. وعلى صعيد الموضوع، بقي ما يُبقي الأرض تدور والحياة ممكنة على هذا الكوكب القاحل: المرأة. منذ فترة كتبتُ: أُريد فمكِ شريكاً في قبلة أو صرخة احتجاج. المرأة هي العمود الذهبي الذي نستند إليه. فآدم وحواء قدرهما أن يخلدا الى قمر واحد، فما من قمر منشطر، ليذهب كلٌّ بحصته. كما في نص آخر جديد لي. وأعود الى بداية هذه الشهادة، فقد آن الإفصاح عن مضمون عبارة الحب، التراجيدية، تلك، وهي، بالضبط، بعد تفصيحها: «عينايَ عمِيتا لأجل سعاد» وكنت أسمّيها «سعّودة» تحبُّباً وتدليلاً، لاثغاً بالسين. وسعاد هذه طفلة بعمري كنت ألعب معها، لكن حدث أن رمدتُ ولم يكن بمقدوري أن أفتح عينيّ. وحين كنت أُسأل عن السبب، أردّه الى سعاد. ومنذ تلك الجملة الشفاهية عن صديقة الطفولة الى آخر نص مكتوب، تبقى «الأنثى» الخيط الذهبي الذي ينتظم سنوات العمر والشعر.