باراك حسين أوباما (مواليد 1961 وتولّى منصب الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة من 2009-2016) نشر هذا الاسبوع جزءاً أوّل من مذكراته تحت عنوان «أرض موعودة» (Crown Publishing Group ـــــ ستُنشر بالعربية في ربيع 2021 عن «هاشيت أنطوان نوفل») يسرد فيه متخفّفاً من أعباء السلطة سيرته منذ الطفولة وأيّام شبابه في ما يقرب من ربع الكتاب الضخم (768 صفحة) ثم تصعيده إلى السلطة رئيساً في الفترة الأولى لغاية اللّيلة التي يدّعي فيها أنّه اجتمع بفريق من العمليّات الخاصّة بالبحريّة الأميركيّة (مايو 2011) كان يتأهّب وينتظر الضوء الأخضر منه للانطلاق نحو أبوت أباد (الباكستان) بغرض تصفية أسامة بن لادن زعيم تنظيم «القاعدة».

تتصدّر غلاف الجزء صورة للرئيس العتيد مبتهجاً، يشعّ باللّطف والأناقة والثّقة، تماماً كما رسمته منظومة الإعلام الغربيّ في مخيّلة الجمهور (الأميركي وغير الأميركي معاً). لكنّ الصورة المتألقة شيء، والمحتوى شيء آخر تماماً: تصفية حسابات لم يكن يجرؤ ليصفّيها وهو مقيم في البيت الأبيض. ادّعاء بطولات وهميّة عن إنجازات مبتورة فرضتها المنظومة، مواقف مثيرة للاستهجان في مختلف محطات حياته. إيمان أحمق بالاستعلائية الأميركية تجاه العالم وتبرير ذاتيّ للمسؤوليّة عن عمليّات قتل واستهداف لا تعدّ، واجترار ممضّ لذات الخرافات التي تروّجها أجهزة الاستخبارات والبنتاغون منذ بعض الوقت بشأن فزّاعة الإرهاب، وكثير من الانطباعات المسطّحة والشكليّة عمّن التقاهم خلال فترة رئاسته.
يورّطك أوباما – أو الكاتب الشبح بالطبع الذي وضع حكايات الرئيس السابق نصّاً مكتوباً – في 200 صفحة لإعادة سرد محطات سيرة طفولته الباهتة التي سبق أن رواها في «أحلام من والدي» (1995) الذي أصدره كجزء من حملته الانتخابيّة لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية إلينوي. ولذلك لا جديد يُذكر هنا ربّما سوى توسّعه بالحدّيث عن أربع سنوات قضاها صغيراً في أندونيسيا، وكان يتجنّب الإضاءة عليها وقت تولّيه الرئاسة بعدما أشبعه الجمهوريون إهانات حول مكان مولده وتراث والده المسلم. لكن «أرض موعودة» هو بالضرورة أقلّ حميمية من كتابه القديم، وثقله عرضٌ من وجهة نظره للقضايا الرئيسية التي واجهها أوباما خلال فترة ولايته الأولى، بما في ذلك إدارته للأزمة الماليّة العالميّة، وصراعه الدامي مع الجمهوريين في الكونغرس ضدّ مشروعه لمدّ الرعاية الصحية (لعشرين مليوناً من الأميركيين فقط)، وقضايا الهجرة اللاشرعيّة، وحادثة التسرّب النفطي الهائل على شواطئ لويزيانا، كما الحرب الأميركية المستمرّة منذ 1979 على أفغانستان، فيما يبدو أنّه رحّل معظم القضايا المحرجة، كدوره في حرب الدّرونات، والتورّط الأميركي في الحرب القذرة على سوريا، ودولة المراقبة اللصيقة على الأفراد عبر العالم وغيرها، إلى جزء ثانٍ لم يحدّد بعد متى سينشره.
ورغم من أن الكتاب يستهدف تلميع رئاسة أوباما، وإلى حدّ ما تبيان تناقضها مع فترة الجمهوريين بعده في عهد الرئيس دونالد ترامب، إلّا أنّ الرئيس يبدو في سردياته كلّها متردّداً، مسرعاً للتنازل عن خطته لتجنّب المواجهة مع الآخرين، ومستعدّاً لتبني آراء الشخصيات القويّة – لا سيّما النسويّة – من حوله على حساب وجهة نظره، ومجرّد شاهد على صنع الأحداث وليس شريكاً فيها. وبدلاً من أن تكون مذكراته مصدر إلهام للأجيال القادمة، بدت كأنّها اعتذارات متلاحقة عن تحقيق أيّ إنجاز فعليّ بسبب جموح القوى المعاكسة في النظام السياسي الأميركي على تنوعها (وبما فيها اللوبي الصهيوني الذي يعترف أنّه جزء لا يتجزأ من المنظومة الأميركيّة ويستحيل تجاوزه)، ومن دون أيّ رؤية حقيقيّة للدولة أو للمجتمع.
اجترار الأساطير والكليشيهات عن الإرهابيين المسلمين «الذين يكرهون قيمنا»


يعتبر أوباما في أرضه الموعودة أن أعظم انتصاراته الشخصيّة خلال فترة رئاسته الأولى كانت خطتّه لإنقاذ الاقتصاد الأميركي – وبالتبعيّة الاقتصاد العالمي – بعد تفجّر أزمة المشتقات الماليّة في 2008 والتي عندما وصل أوباما إلى عتبة البيت الأبيض كانت تهدّد بانفراط المشروع الرأسمالي برمّته. لكّن كل ما فعله الرئيس وقتها هو أنّه ألقى جانباً كلّ طموحاته الموهومة بفرض تغييرات هيكليّة على طريقة إدارة الدولة الأميركية أو حتى جلب فريق موالٍ له من المواهب الجديدة، وخضع لتوجيهات الخبراء المعتقين في ضرورة إنقاذ البنوك وبيوتات المضاربة والاستثمار مما جنته يداها هي بالذات ودائماً على حساب الخزينة العامّة وعبر خلق أكوام من الدولارات النظريّة التي كان على بقيّة العالم أن يمنحها القيمة ومن دون أن يلقي بالاً للفقر والبطالة الواسعين نتيجة الأزمة. لا شيء في هذه القصة يبدو أوباميّاً، سوى في العجز وتجنّب المواجهة. لقد نفّذ الرئيس حرفياً خطّة النخبة المهيمنة على النظام الأميركي، لا أكثر ولا أقل.
يكشف صراع أوباما المزمن مع الجمهوريين في الكونغرس (والنظام الأميركي عموماً) عن ديناميكية تستعاد مراراً وتكراراً في «أرض موعودة»: رئيس أميركي ملوّن لا يشعر بالراحة داخل بشرته السوداء، وسياسيون يمينيّون موتورون أيديولوجيّاً يعارضون لمجرّد المعارضة من دون أن يكلّف أغلبهم نفسه عناء قراءة مشاريع القوانين المقترحة، وبغضّ النظر عمّا قد يترتب على إعاقة التشريع من عواقب سلبيّة على المجتمع. لكنّه مع ذلك يُغفل المكوّن العنصري في موقف الجمهوريين، ويوهمنا طوال الوقت أن الحرب عليه في الكابيتول هول ليست سوى لتموضعه السياسيّ كليبرالي تقدّمي. وهو يستغرب مدى تغلغل هذا العبث الأيديولوجي في أوساط نخبة واشنطن، واشتكى من أنّه كان يحتاج لتدخل العسكريين كي يخففوا من غلواء الموظفين المدنيين في السلطة الذين ليس على ألسنتهم من حلول يقترحونها لضمان المصالح الإمبرياليّة وراء البحار سوى شن الحروب وتوجيه الضربات.
وبما أن المكوّن الرئيسّ للكتاب يقوم على اجترار الأساطير والكليشيهات الأميركيّة المملّة عن الإرهابيين المسلمين الذين يكرهون قيمنا وديمقراطيتنا، وبوتين الذي يشبه زعيم عصابة يمتلك أسلحة نووية، والملك السعودي الذي يمتلك 12 زوجة ويترك هدايا بملايين الدولارات في غرف ضيوفه، فيما نتنياهو شخصيّة مثيرة للإعجاب (دون شكّ) وغيرها من النمطيّات، فإن ما يتبقى للقارئ فعلاً هو بعض التفاصيل الصغيرة والقيل والقال والادّعاءات المثيرة للسخرية التي تعين على الاستمرار بالقراءة. يقول مثلاً إنّه قضى سحابة وقته في الكليّة في مطاردة الفتيات وكسب ودهن. وهكذا يخبرنا بأنّه قرأ كارل ماركس وهبريرت ماركوزيه كي يتمكّن من محادثة فتاة يساريّة ذلت سيقان طويلة تقيم في ذات بناية السكن الجامعي، فيما قرأ ميشال فوكو وفرجينيا وولف للتقرّب من فتاة سوداء ثنائيّة الجنس! وبالطبع تلك ادّعاءات فارغة على الأغلب، إذ لا تجد في سلوك أوباما أو سيرته السياسيّة أو كتبه وخطبه أي أثر لأيّ من هؤلاء الكتاب لا فكراً ولا مناهج ولا حتى مصطلحات، وهو أمر لا يُعقل. وتظهر رحلاته الخارجيّة سذاجة غير متوقّعة من رئيس الدولة العظمى. فهو يريد مخاطبة العالم الإسلامي من جامعة القاهرة فيستدعي موظفاً يهودياً ليكتب له نصّ الخطاب، ويصف الملك عبد الله بأقوى رجل في العالم العربي، فكأنّه لا يعرف أبداً أن هذه المملكة الظالمة جاثمة على صدر الأمّة والإنسانيّة بفضل الحماية الأميركيّة تحديداً. وهو تابع أمين لأوهام الاستثناء الأميركيّ، فيزعم أن الولايات المتّحدة لا يُخشى منها فقط، بل تحظى بالاحترام أيضاً بين شعوب العالم، ويقول بأنّه بعد زيارته الطويلة إلى السعوديّة توجه بطلب شخصيّ خاصّ من الملك (عبد الله) بتقديم مبادرة نحو «إسرائيل» قد تساعد على تحقيق «السّلام» في الشرق الأوسط. وعندما يتوقف نظام الاتّصالات الفائقة الآمن في البيت الأبيض بينما يقوم الرئيس برحلة إلى البرازيل ويحتاج إلى منح موافقته (الشكليّة طبعاً) على التدخّل العسكريّ ضد ليبيا (انتهت إلى تدمير البلاد الثريّة وتشرذمها بين ميليشيات متطرّفة متصارعة، ناهيك بأكثر من 120 ألف قتيل) فيقوم بالنهاية باستخدام هاتف عادي لإصدار أوامره بالهجوم، تماماً كما لو كان بصدد أن يطلب بيتزا.
يذكر أوباما الرئيس ترامب في هذا الجزء من مذكراته كمتسلّق يريد بناء علاقات مع ساكن البيت الأبيض لأجل الحصول على عقود ومنافع. لكنّه بالتأكيد سيحظى بمساحة أكبر في الجزء الثاني. وربّما كان من مصلحة جوزيف بايدن تحديداً أنّ «أرض موعودة» ظهر بعد انتخابه رئيساً، إذ كان الجمهوريّون سيجدون في ما رواه أوباما عن معارضة بايدن لعمليّة تصفية أسامة بن لادن دليلاً على توجهات مهادنة لا تتناسب وحاجات الإمبراطوريّة، وبالتالي تشكيك بعض الأميركيين بكفاءته كرئيس (لا يقدم على القتل). لكنّها ستُستخدم الآن من قبل المعسكر الديمقراطيّ للتدليل على رجاحة عقل الرئيس الجديد وقدرته على لجم الاندفاع والتهور أقلّه مقارنة بترامب.
«أرض موعودة» نص دعائي بامتياز ومشغول بحرفية لتكريس الأساطير المتداولة. الحقيقة أن أوباما قضى فترة رئاسته في توقيع أوامر القتل، وخدمة المصالح الإمبرياليّة الاميركيّة والإسرائيليّة، وتبييض جرائم النخبة الرأسماليّة بحق الأميركيين الفقراء، والتغطية على أضخم برامج التجسس العالمي، وتناول الطعام في الصحراء مع آل سعود. لقد كان هذا الرجل الأسود البشرة أسوأ نموذج ممكن للأميركي الملوّن الذي يرتدي قناعاً أبيضَ – وفق وصف فانون - ولا يتأخّر عن تنفيذ أسوأ الجرائم كي يرضى عنه الأسياد البيض، نبيّ كاذب، لم يكن سوى جورج دبليو بوش آخر يتابع مسيرة سلفه في ممارسة القتل المعولم لكن بقفازات مخمليّة. كم تبقى الأشياء الأميركيّة كما هي مهما تغيّرت، ولو من النقيض إلى النقيض.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا